أزمة الكهرباء في غزة سياسية أم اقتصادية أم فنية أم جميعها معا؟/ عبد الكـريم عليــان


لا أحد ينكر أن الكهرباء هي شريان الحياة جميعها، فبدون كهرباء تتوقف الحياة تماما وأهمها المياه التي لا تصلك أو تضخ إلا بالكهرباء فإن وجدت الكهرباء تدب الحياة في كافة أنشطة المجتمع المختلفة، وإذا انقطعت تنقطع معها كل أنشطة الحياة في أي مجتمع، ولن نتحدث هنا عن معاناة الناس المختلفة جراء ذلك.. بل سنناقش قضية كهرباء غزة بهدوء وبصدق كما نعتقد، وبدون إزعاج لأحد..! ويجب أن نعترف أولا أن وظيفة أي حكومة كانت هي: توفير الخدمات والحاجات الضرورية للمواطنين بأعلى جودة ممكنة وبأقل تكلفة ممكنة.. ولأن إنتاج الكهرباء وتوزيعها من الحاجات الاستيراتيجية لأي مجتمع فبقى هذا المشروع في أيدي الحكومات، وإن خصخص في بعض الدول، فقد ألحق بقوانين صارمة ضد الشركات المغذية للكهرباء فيما لو توقفت أنشطة المجتمع بسبب انقطاع التيار الكهربائي وتضررت حياة الناس من جهة، ومن أخرى يجب أن تكون أسعارها رخيصة وفي متناول الجميع؛ لأنها تعمل على تنمية وتطوير أنشطة المجتمع المختلفة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية..

أما أزمة الكهرباء في غزة فقد بدأت عام 1989 في وهجان الانتفاضة الأولى عندما طالبت القيادة الوطنية الموحدة من مواطني غزة بالتوجه نحو العصيان المدني وأولها عدم التعاطي مع مؤسسات الاحتلال الإسرائيلي؛ فالتزم أهالي غزة بذلك، وإن كان ذلك تخفيفا عن كاهل المواطن الذي بدأت مدخولاته بالتراجع فتراكمت ديونه المستحقة للبلديات التي كانت مسئولة عن توزيع الكهرباء الإسرائيلية.. وازدادت أحوال المواطنين الاقتصادية سوء مع استمرار الانتفاضة وإجراءات الاحتلال القاسية وبكل الأشكال، فزادت تلك الديون إلى حد أن كثيرا من الناس لم يستطيعوا تسديد تلك الديون حتى يومنا هذا.. علما بأن البلديات تلقت أموالا ومنحا كثيرة، لكنها لم تقم بمسح تلك الديون أو التخفيف منها سوى بعض الحالات القليلة..

حتى السنة الثانية لعهد السلطة الوطنية في غزة كان إمداد الكهرباء كاملة لها من إسرائيل، لكن السلطة الفلسطينية وحسب اتفاق أوسلو قررت إنتاج كهرباء فلسطينية لتغطية حاجات غزة من الكهرباء خصوصا أن الكهرباء الإسرائيلية لم تكفي حاجات غزة المتسارعة النمو، وأعتقد في حينها أن إسرائيل اقترحت تغطية كل احتياجات غزة باتفاق جديد وبسعر أقل من تكلفة إنتاج الكهرباء الفلسطينية، لكن السلطة الفلسطينية رفضت العرض الإسرائيلي من منطلق الاستقلال وتمهيدا للاستغناء عن الكهرباء الإسرائيلية.. إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن..! ومع تأسيس وإنتاج الكهرباء في غزة نشأ ما يسمى بشركة توزيع كهرباء غزة كبديل للبلديات التي كانت توزع الكهرباء، وبقت وظيفة هذه الشركة هي شراء الكهرباء من إسرائيل والمحطة الفلسطينية وتوزيعه بالإضافة لمسئوليتها عن الشبكة وصيانتها.. ومع دخول الانتفاضة الثانية بدأت أحوال الناس الاقتصادية تزداد سوء مما زاد من تراكم ديون المواطنين المتراكمة أصلا ووصلت حدودا خيالية من الصعب تسديدها حتى لو تحسنت الظروف التي لا يمكن أن تتحسن خصوصا بعد الانقسام والحصار.. وورثت هذه الشركة أعباء ثقيلة يستعصي عليها حلها والخروج من هذه الأزمة التي طالت، ومع مرور الزمن تزداد تعقيدا وتزداد مشكلات جديدة.. ومع هذه الحال ترهلت هذه الشركة وتضخمت مشاكلها إلى حد أنها تحتاج إلى إعادة تأهيل من جديد لمعظم العاملين فيها خصوصا من انعدمت لديهم روح المسئولية والانتماء للوطن والمهنة.. وهذه الصفة تلاحق كثيرا من العاملين في المؤسسات الخدماتية الأخرى سواء شركة الكهرباء أم البلديات والاتصالات أم الوزارات المختلفة..

بعد الحرب الأخيرة على غزة وضرب محطة توليد الكهرباء أصبح العجز كبير في تغطية حاجات غزة التي تتغذى بـ 60% تقريبا من إسرائيل والمحطة كانت تغطي الـ 40% الأخرى وفي حينها بدأت الشركة بتوزيع الـ 60% على كامل قطاع غزة وبالطبع لم يخلو ذلك من خلل هنا وخلل هناك حسب رؤية العاملين وتصرفهم مما أفرز مشاكل جديدة لم تكن في الحسبان.. وسارعت مصر الشقيقة بتخفيف بعض من العبء الجديد بتغذية منطقة رفح الحدودية حسب الكهرباء المصرية المتوفرة على حدودها ووعدت بزيادة الكمية في حال توفر خط للضغط العالي، وكما نشر في حينة أن بنك التنمية الإسلامي قد تبرع بمبلغ 30 مليون دولار تكلفة الخط الناقل إلا أنه حتى الآن لا نعرف أين وصل المشروع؟! وفيما بعد تم تشغيل مولد واحد من المحطة بعد تدخل سياسي ودولي في ذلك.. على العموم وصل حال الكهرباء في غزة بأنها تنقطع عن المواطن ما يعادل عشر ساعات يوميا، وتبريرات الشركة لذلك هو أنه لا يوجد كهرباء كافية وأحيانا تتوقف كهرباء المحطة تماما نتيجة عدم توفر الوقود الإسرائيلي أيضا..؟! ومن المعلوم أن أوربا تدفع قيمة هذا الوقود.. ومن المعلوم أيضا أن مساهمي محطة توليد الكهرباء يستلمون أرباحا منتظمة من البنك العربي؟؟ كيف يمكننا أن نفهم ذلك..؟؟ وكيف يمكن للمواطن المسحوق أن يدفع قيمة هذه المرابح في ظل انعدام الدخل؟

لا نعرف مقدار المبالغ التي تجبيها الشركة من المواطنين وبالطبع لا نعرف نسبة المواطنين الذين يلتزمون بسداد فواتير الكهرباء، ولا نعرف هؤلاء إلى أي شريحة ينتمون..؟ لكن من الواضح أن جزء كبير من السكان غير قادرين على تسديد الفواتير المستحقة عليهم، ونعتقد أن جوهر المشكلة يكمن هنا.. فالشركة لا يمكنها تغطية العجز الناتج عن ذلك.. فتستعيض عنه بقطع الكهرباء عن الجميع كي توفر كمية الكهرباء التي لا يمكنها تسديدها نتيجة عدم قدرة جميع المواطنين بالتسديد.. وفي هذه الحالة نستنتج أنه لا يوجد عجز عند الشركة لأنها تقوم بتوزيع الكهرباء على الجميع حسب قدرتها على تغطية التكاليف، وبمعنى آخر: حجم الجباية إضافة إلى ما تدفعه أوروبا ثمن الوقود وتخصم قيمته من ميزانية السلطة الفلسطينية هو كل التكلفة. وعندما يدفع عدد من الناس ما هو مستحق عليهم ففي ذلك تغطية لعجز الجزء الآخر؛ فهذا يعني أننا نتحول إلى مجتمع اشتراكي؟! فهل سنكون اشتراكيين في الكهرباء فقط !؟ هذا يقودنا للتساؤل عن الدور السياسي في هذه الأزمة، وبالطبع كما أسلفنا في المقدمة أن على الحكومة توفير الخدمات بأعلى جودة ممكنة وبأقل تكلفة ممكنة.. لكن من المسئول في ظل الفاجعة (الانقسام) التي نحن بها وصارت أزمة يستعصى حلها.. نعتقد أن المسئول عن إدارة حياة الناس وشئونهم هي حكومة غزة أو حكومة حماس التي ضربت بعرض الحائط موضوع الكهرباء وحملته للحكومة الشرعية في رام الله وفي نفس الوقت فرضت على شركة توزيع الكهرباء توظيف عددا كبيرا من عناصرها ومؤيديها مما أضاف أعباء جديدة على الشركة إضافة لأعبائها الضخمة، وكذلك سمحت عبر الأنفاق بتوريد أعداد هائلة من موتورات توليد الكهرباء التي باتت معظم بيوت ومحلات وورش غزة لا تخلو منها؛ لأن ذلك يعود بالفائدة الجمة من خلال الضرائب المفروضة على توريدها وكذلك من ضرائب الوقود اللازم لتشغيلها ونسيت حجم الضرر البيئي والخطر الناجم عن تشغيل هذا العدد الهائل من الموتورات حال تشغيلها.. إنه الجنون بعينه..! ولو حسبنا ثمن هذه الموتورات وثمن الوقود اللازم لتشغيلها لوجدنا أنها تشغل ثلاثة محطات للتوليد مثل محطة غزة..!؟ فمن المسئول عن ذلك ؟ ومن هو الذي عليه أن يحسب خسارة الناس القومية؟؟ أية حكومة هذه التي تعجز عن إدارة مشروع كهرباء صغير؟! ألا يستحي هؤلاء من أنفسهم عندما استنصبوا وزراء وغير ذلك.. بالطبع لا يمكن إخلاء النواب الذين انتخبهم الشعب من المسئولية، بل تقع عليهم كل المسئولية لأنهم لم يقولوا كلمة حق على الأقل..!

هذا هو الحال في غزة.. أزمة الكهرباء لا تختلف عن المشاكل الأخرى التي يعاني منها سكان غزة في ظل الحصار والانقسام، إن أية حلول قادمة لا تأخذ بالحسبان معاناة الناس والتخفيف عنهم لا تعتبر حلولا.. وعلى الشركة إن أرادت أن تحسن من عملها؛ فعليها أولا أن تكون شركة خدماتية لا تتأثر بالأمور السياسية، وأن تعوض الناس عن الأضرار التي لحقت بها جراء قطع الكهرباء وقبل كل ذلك عليها مسح كل الديون المستحقة لها من الناس وتبدأ من جديد عملها بإخلاص وأمانة وتؤهل العاملين لديها وتتخلص من الفاسدين الذين علموا الناس سرقة الكهرباء وتطبق قانون صارم على العاملين فيها قبل الناس.. أما الحكومتان فعليهما أولا النزول عن الشجرة إن كانتا تنتميان لهذا الشعب الذي تحمل الكثير من الاحتلال والأكثر من انقسامهما.. وباتت الناس لا تعرف على ماذا هم منقسمون وعلى أي كعكة يقتتلون؟! وفي موضوع الكهرباء عليهم تحديد سعر الكهرباء بما يتلاءم وظروف الناس وأحوالهم الاقتصادية وغيرها فالمكان الوحيد في العالم الذي يرتفع فيه سعر الكهرباء مع ارتفاع الاستهلاك هو في غزة..!

CONVERSATION

0 comments: