د. سلام فياض والمفاهيم المغايرة/ د. حبيب بولس


في13-6-2010 نشرت صحيفة "الاتحاد" خبرا مطولا في موقعها الالكتروني حول افتتاح "مؤسسة محمود درويش للابداع" وقد ركز الخبر على خطاب رئيس حكومة فلسطين الدكتور سلام فياض. قرأت الخبر ودهشت، وذلك بسبب التعليقات التي ذيّلته من بعض الاسماء، ولا ادري اذا كانت تلك الاسماء حقيقية ام مستعارة.
ما ادهشني هو التهجم الحاد والمحتقن على شخص "سلام فياض" وتصويره على انه عميل او كأنه بمواقفه السياسية يسعى لبيع القضية. هذا النفر من المعلقين، او هذه الجوقة اصواتها في رأيي كانت نشازا خارجة عن السرب، ذلك لانها تعيب على "فياض" وعلى منظمة التحرير الاستمرار بالمفاوضات وغير ذلك من الاتهامات.
للحقيقة اقول: ان تعددية الرأي متاحة وهي المؤشر على مجتمع سليم معافى، فللآخر الحق في ان يقبل الرأي او ان يرفضه، ولكن شريطة عدم التجريح الشخصي، او على الاقل شريطة ان يقدم البديل.
بمعنى اذا كانت منظمة التحرير تؤيد المفاوضات والآخر المعارض يرفضها، عليه ان يقدم بديلا لها لا ان يتهم ويتهجم وينعت المفاوضين والمؤيدين بالعمالة فقط. للمفاوضات اهميتها من حيث الفهم السليم لمجرى الامور. نحن كفلسطينيين تهزنا الاحداث، وهذا مشروع، وتدفعنا العاطفة احيانا الى الكثير من المواقف ولكن علينا ان ننتبه الى ان العواطف في الامور الساخنة الجادة لا تجدي، وما يعوّل عليه دائما هو العقل. منظمة التحرير والقيادة بمن فيهم الدكتور "سلام فياض" يرون في المفاوضات الطريق الاسلم الى الحل، لانهم يعون جيدا مطلب امريكا واوروبا والعرب والعالم، من جهة، ومن اخرى لانهم يعرفون انهم لا يملكون البدائل. ففلسطين لغاية الآن ليست دولة ذات سيادة ولا تملك القوة الكافية لتحرير ارضها بالسلاح، لذلك كل صوت ينادي بذلك في اعتقادي هو صوت لا ينوي الخير لفلسطين. التعليقات التي اشارت الى المفاوضات على انها عمل لا يأتي الا من متواطئين وعملاء، تلك التعليقات التي تريد تحرير فلسطين بالقوة هي تعليقات فارغة لا تقدم الى القضية شيئا، وهذا يذكّرني بالقائد طيب الذكر "توفيق زياد" حين كان يلقي محاضرة في جامعة حيفا بدعوة من لجنة الطلاب العرب في حينه، حيث كان كلما ذكر شعار "دولتان لشعبين" صرخ احد الطلاب من الذين كانوا يجلسون في المقاعد الخلفية "الجليل محرر لا محتل".
في البداية لم يعر "زياد" صراخ الطالب اهتماما، ولكن الصراخ تكرر وبوتيرة اعلى لدرجة الازعاج والمقاطعة الامر الذي جعل "زياد" يضيق ذرعًا ويميل على رئيس لجنة الطلاب هامسا ومتسائلا عن الشاب وحين سمع اسمه واسم والده ومن اين هو، اجابه بحكمته وبسرعة بديهته المعروفتين عنه، إجابة مفحمة حيث قال: "الجليل محرر لا محتل" يا ابني اعطني مسدس والدك كي احرر لك فلسطين كلها"، فما كان من ذاك الطالب الا ان غادر القاعة يلوك كرامته ويعلك تفاهته؟
هذه الحادثة اوردها هنا كي ادلل على ان العاطفة لا يمكن لها ان تحل امرا، انما تحكيم العقل هو الذي ينفع. هل باستطاعتنا اليوم ان نحقق صرخة ذلك الطالب؟ هل نستطيع بما لدينا اليوم تغيير الوضع القائم؟ وكيف؟ وهذا ينطبق على منظمة التحرير وعلى وسائلها في تحقيق الامن. والدولة المستقلة ذات السيادة مع عدم التنازل طبعا عن الثوابت الاساسية: دولة مستقلة ذات سيادة في الضفة والقطاع، وعاصمتها القدس الشرقية، وحق عودة اللاجئين. واعتقد ان هذا ما يؤمن به الدكتور "سلام فياض" وقد اعلن ذلك اكثر من مرة. اذًا لمَ التهجم؟ هل نريد من إخوتنا الفلسطينيين ان يحملوا السلاح لشن الحرب على اسرائيل؟ وكيف. وهل يعقل ذلك؟ وهذا الامر يقودني الى ايراد حادثة اخرى لا تزال عالقة بالذاكرة مفادها انه في احد مؤتمرات القمة العربية وقف الرئيس "بشار الاسد" خطيبا وقدم النصائح للفلسطينيين. "ان ما أُخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة". وكم كان كلامه حينها مضحكا، وكم اعجبي رد القائد "ياسر عبد ربه"، حيث قال: "حبذا لو ان الرئيس بشار وجه النصيحة لنفسه، ايريدنا ان نحارب اسرائيل ونحن بعد في طور التكون واسرائيل دولة عسكرية كبيرة تهابها كل دول المنطقة. ثم اليس الجولان محتلا بالقوة؟!! لماذا لا يحمل الرئيس السلاح وهو رئيس دولة ذات سيادة وعريقة لتحريره بالقوة؟!
كم هو مضحك هذا الامر! علينا ان نعرف قدرتنا وقدراتنا لا ان نطلق الشعارات الطنانة الرنانة الفارغة من مضمونها. ألعقل هو الذي يجب ان نحتكم له وان نحكّمه لا العاطفة، لذلك الهجوم على "سلام فياض" لم يكن في محله، ذلك لان سبب الهجوم سبب بلا رصيد. وفي رأيي المتواضع كان المفروض ان نمدح مواقف الرجل لا ان نتهجم عليه. ومدحه نابع من اسباب عدة اهمها: لا يخفى على احد ان منصب رئيس حكومة في عالمنا العربي منصب فارغ من مضمونه، اذ هو مجرد صورة، فرئيس الحكومة لا يحل ولا يربط، او لنقل هو منصب "زعاماتي"، في احسن الحالات رئيس الحكومة مجرد بوق يفرغ الملك/ رئيس الدولة، من خلاله آراءه ومواقفه. بينما في فلسطين وهذا ما نفتخر به ونعتز – نجد ان رئيس الحكومة "سلام فياض" قد اعطى للمنصب مضمونا ومعنى، فهو رئيس فاعل على جميع الصعد. على الصعيد السياسي / الاجتماعي / الاقتصادي/ الفكري/ الثقافي. واذا كنا نكن الحب لهذا الرجل فذلك نابع من كونه استطاع ان يقلب مفاهيمنا عن رئاسة الحكومة في عالمنا العربي، من جهة، وفي كونه ايضا استطاع ان يحطم تلك الهالة التي تحيط بهذا المنصب، تلك الهالة المؤثثة بالفيلا وبالحراس وبالسيارات الفاخرة، وبالحياة المنعمة، الارستقراطية، المرفهة، والباذخة، من أخرى. "
"سلام فياض" قلب هذه المفاهيم، فهو رجل متواضع نراه موجودا في كل حدث، وفي كل قرية وفي كل مدينة، في كل حي وشارع، هنا يفتتح منشأة اقتصادية، هنالك يحتفل بتعبيد شارع، مرة نجده في حفل ثقافي، واخرى في اجتماع او مهرجان سياسي/ اجتماعي، وهكذا خلال اليوم الواحد لا يعرف الاستكانة ولا يركن الى راحة، دائم الحركة، دائم الحضور، يسعى الى تأسيس البنية التحتية لفلسطين ايمانا منه انها الضمانة الوحيدة للدولة القادمة ذات السيادة السياسية والاستقلال الذاتي الاقتصادي، بحيث يصير في مقدورها ان تعتمد على نفسها. "سلام فياض" بعمله الدؤوب هذا اشتق نهاجية جديدة لم نألفها من قبل، نهاجية العمل والتواجد الدائم في لب الحدث، مع ان باستطاعته كرئيس ان يجلس على كرسي وثير في مكتبه ويراقب من خارج او من عل ٍ، ولكنه على ما يبدو يرفض هذا البذخ ويؤمن بمقولة "أبي تمام":
"بَصُرتَ بالراحة الكبرى فلم ترها تُنال الا على جسر من التعب".
"سلام فياض" تراه في يومه يتنقل في منابت العزّ، في الاماكن الفلسطينية و"كل مكان ينبت العز طيب" كما يقول المتنبي، لا يرحم نفسه ولا يحيطها بهالة الزعامة. فهو قريب من الناس، متواضع، رجل عمل لا شعارات، وموقفه السليم والعقلاني والمرن جعله مقبولا على الجميع. شعاره العمل مع نظافة اليد، لا يتشكّى ولا يتذمر ولا يتأفف، همه وهاجسه فلسطين ومستقبلها.
"سلام فياض" الرجل المتواضع على شموخ، الهادئ على ثورة العامل بلا منة، صاحب سياسة الباب المفتوح والعمل المكشوف، رجل يستحق منا كل التقدير والاحترام لا الهجوم والتهجم. "سلام فياض" رجل متفائل دائم البسمة، دمقراطي، علماني، لا يفرق ولا يغلب مصلحة خاصة على المصلحة العامة. هدفه وبوصلته فلسطين، يعرف ان القوة لا تجدي، ما يجدي هو استعمال العقل للوصول الى الهدف، فالعالم برمته ما عاد يحتمل استخدام القوة، ومثلما نريد من العالم الوقوف الى جانب قضيتنا العادلة، كذلك علينا ان نظهر بأحسن صورة، أي علينا ان نستخدم كل الآليات والوسائل المتاحة لتحقيق اكثر ما نصبو اليه باقل ما يمكن من الضحايا.
من هنا اولا، نرى فيه رجلا صادقا، عاملا ونموذجا، ومن هنا ثانيا يجيء احترام العالم اجمع له، العدو قبل الصديق، ومن هنا ثالثا، يستمد هذا الرجل قوته، ويستأنف مسيرته تحت شعار العمل مع الكرامة، ومن هنا رابعا، يكثر حساده، ومن هنا خامسا، نسمع الاصوات النشاز التي تهاجمه، الاصوات التي تخرج من شلة "يأكلون الطعم ويقضونها على الصنارة"، كما يقول مثلنا الشعبي، وكثرة الحاسدين دليل على النجاح، لان الحسد لا يكون لرجل فاشل، وكم صدق "ابو تمام" بقوله:
"واذا اراد الله نشر فضيلة طويت اتاح لها لسان حسود.
لولا انتشار النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب نشر العود
"سلام فياض" سر فنحن معك، نحن مع كل صاحب يد نظيفة، يحترم تاريخه، ويمتح من نضال شعبه، وينهج نهاجية عقلانية، نحن مع كل متنور يحكّم العقل ويحتكم اليه، ويسعى حثيثا من اجل رأب الصدع، وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، بدءًا من بنيتها التحتية وصعودا الى صروحها الاقتصادية والاجتماعية ووصولا الى القمم العلمية والادبية والثقافية الشامخة، دون التفريط بالثوابت.
"سلام فياض" سر فنحن معك، لا تصغ لتلك الاصوات التي لا تهدف الا الى تعطيل المسيرة.
لا اعرفك شخصيا، ولا أتغيا من وراء ما اقول شيئا، ولكنني رغم عدم معرفتي لك، كنت في كل مرة اشاهد محطة فلسطين المتلفزة، اشاهدك دائم الحضور، قانعا بما تعمل، متواضعا، مما جعلني اقول في نفسي: "هذا هو الرجل الذي يعوّل عليه، وهو في ايامنا الرديئة هذه عملة نادرة، لذلك علينا ان نحرص عليه، وان نشجعه وندعمه". وحين سمعتك في "كفر ياسيف" في حفل افتتاح مؤسسة محمود درويش للابداع، وانت تتكلم بكلام صادق مغروف من القلب، صريح ترسخت قناعتي بنهجك وقلت فعلا "نحن شعب يستحق ان نفخر بابنائنا وبقياديينا من امثالك"، قيادة تغلب الصالح العام وتحتكم الى العقل وتحكمه، نظيفة اليد واللسان، تؤمن بالعمل لا بالشعار تنفر من الزعامة الفارغة وتؤمن بالتواضع، ترفض الاستكانة وترى الى التضحية، حتى صارت قولة زعيم شعرنا "المتنبي" مفصلة عليك "سلام فياض" تفصيلا:
"كل يريد رجاله لحياته يا من يريد حياته لرجاله"
سر فنحن معك، واقطف النجوم والاقمار، ودع الحاسدين والمتقاعسين، الذين لا يتقنون سوى التذمر، والاعتراض، والتهجم، الذين يفتشون عن عيب حتى اذا وجدوه ضحوا وعيدوا"، مع انه بعيد. دع هؤلاء الذين لا يرون من القمر سوى هالته الداكنة، دعهم فحين تصل ويصل شعبنا معك وبك، ومع كل الشرفاء المضحين الى استقلاله الحقيقي والى اقامة دولته ذات السيادة. حين يتحقق الحلم وتقام اعراس السنابل وضجة الاضواء، دعهم "يلحسون الجرن على ريحة الكبّة".
دمت ذخرًا لفلسطين ونبعا ثرًّا لا ينضب بل يرهق النضوب
drhbolus@yahoo.com

CONVERSATION

0 comments: