حافظ وفؤاد في الحياة الجديدة/ د. فايز أبو شمالة

هزّني حافظ البرغوثي، وزلزل كياني فؤاد أبو حجلة، فكلاهما كتب في يوم واحد عن حال الضفة الغربية، وكلاهما كان عدسة وجدانية لاقطة للأخطار المحدقة بمدنها وقراها، وكلاهما نقل الصورة التي تعجز الكمرة عن التقاطها، وعزفا على وتر المشاعر الذي لا تنقله فضائية، أو إذاعة، ولا يفقهه تقرير صحفي، كلاها تحدث بصدق، وأفاض بأحاسيسه عن الحالة الفلسطينية التي نجهل تفاصيلها، بعد أن غرقنا في بحر غزة.
الكاتبان عادا إلى الماضي، وتحدثا من خلال طفولتهما في القرية، تحدثا عن فلسطين قبل وجود الغاصبين، وحاولا أن يوجدا المقارنة بين ماضي طفولتهم الحالمة، وبين واقع كهولتهم الواجمة، فإذا بنا تحت نير الغاصبين أمام حالة فلسطينية مرعبة، فرضت نفسها على وجدان الكاتبين، وتفكيرهما، وعباراتهما في مقاليهما اليومي في صحيفة الحياة الجديدة.
يقول حافظ البرغوثي في مقاله؛ الثامنة صباحاً: "كل مظاهر الموت الكئيب تهيمن على الطبيعة؛ لا ضجيج في الطرق الجبلية الوعرة، لا فلاحين في الخلاء، لا رعاة يسوقون أغنامهم، لا أجداد يعودون من مقاثيهم بمحصول الفقوس، والباميا، والبندورة مثلما كان ذات سنوات خلت. موات يعم الأرض خارج الأكفان والقبور، وكيف ستبتسم في صباح كهذا وكل ما حولك في النزع الأخير ينتظر دوره في طابور الأكفان؟! ويضيف حافظ: ما حاجتنا للأرض طالما نتودد للسماسرة يوميا ونسأل عن أغلى الأسعار؟ وما حاجتنا للوطن طالما لم نعد نذكر الشهداء في أحاديثنا وأدبياتنا؟ ما حاجتنا للأكفان طالما نسجناها لتتكيف مع الأحياء"؟.
لقد خلخل توازني هذا البكاء النازف من صدر الكاتب حافظ البرغوثي، الذي يعزف فيه بالدمع على أحوال قريته الفلسطينية المحاصرة بالغاصبين. فإذا انتقلت مباشرة إلى مقال السيد فؤاد أبو حجلة؛ ذاكرة برائحة النعناع والمرمية، شعرت أنه يتقلب على الجمر ذاته، الذي مسني بحرقة، وأذهلني، وهو يقول: "وهناك، على طرف القرية تنتصب مستوطنة تعج بالغرباء الشقر المسلحين بصمتنا. ويقول من جاؤوا من البلد: إن دموع الجبل تسيل إلى بيارات البرتقال في الوادي، فيبكي الشجر العتيق، أتداعى، وأكتب عن جبل كان وطنا في الصبا، وقد علمني أن أكون جبليّ الطبع، وأن أكون حديا في سؤال من أخذوه ومن يفاوضون الآن عليه.. هل تستبدلونه الآن بورق الخرائط؟ وهل تتخيلون أن النعناع والميرمية البرية تنمو في أكواب الشاي؟ وهل تجففون دمع بيارات الوادي بالمناديل الصحية؟ يجري العمر سريعا، وتنقضي جولات التفاوض، ولا تلوح نهاية لمسار التسوية، ويظل الصبي يلوذ بالمدن الكبيرة، ويعرف في لحظات الوجد أن العروس لا تخرج من دار أهلها إلا على ظهر فرس!.
اكتفى بهذا النقل الحزين عن أحوالنا، لأضيف: إن الفرس بحاجة إلى حصان الوحدة الوطنية، والتمسك بالثوابت الفلسطينية، وإن غزة ظهر الضفة الغربية، وبطنها الذي يلد الأمل بتواصل المقاومة، لنختزل معاً وجعاً ينخر عظم كل الفلسطينيين. وأضيف: قد يختلف الناس على تسمية بعض الأشياء، إنما يتفقون فيما بينهم على دلالة المعاني.
**
عرب 48 هم لبُّ فلسطين
هم الذين احتضنوا تراب فلسطين، ولم يتركوه، وذابوا فيه رغم قيام دولة باسم إسرائيل، أخذت هويتهم، وأعطتهم اسمها، فصاروا عرب 48، وصاروا إسرائيليين، هؤلاء هم لب الشعب الفلسطيني، وهم نواة الكرامة العربية، وأزعم أن جميع نسائهم النائبة في الكنيست الإسرائيلي "حنين زعبي"، بإصرارها، وعزمها، وصبرها على اليهوديات أعضاء الكنيست اللائي انفجرن قهراً في وجهها، ولأعضاء الكنيست اليهود الذين رجموها بألفاظ اليهود، وأزعم أن جميع رجال عرب 48، هم حارس القدس الشيخ "رائد صلاح"، وجميعهم تجري في عروقهم الدماء العربية بشكل أكثر سيولة من باقي الفلسطينيين، وذلك لسبب بسيط؛ هو أنهم يعيشون الوجع بشكل يومي مباشر، ويعايشون المهانة والتحقير من اليهودي الذي صار عظم ولحم وشريان الدولة العبرية، وتركهم زوائد، يتوالد لديهم الإحساس بغربة الأقلية وسط محيط يهودي معادٍ في الفعل، لطيف في القول، وهذا الذي أيقظ فيهم التحدي، والمنافسة، وإثبات الذات، فعرب 48، هم الأكثر نظافة لأن اليهودي يعتبر العربي قذراً، وهم الأشد وطنية لأن اليهودي يتهم العربي بالخيانة، وهم الأكثر صدقاً ووفاءً لأن اليهودي يحسب العربي كاذباً وغادراً، وصاروا الأكثر علماُ وثقافة وفكراً كي لا يظهروا أمام الأخر متخلفين.
لقد فرض الواقع على عرب 48 الحياة بالتنافس، والمزاحمة على فرصة العمل، والصراع اليومي لاستنشاق هواء الحياة، وقد أثبتوا ذاتهم، واجتازوا أسوأ المراحل في تاريخهم عندما سعى عدوهم إلى تمزيقهم، وشحذ أطرافهم ضد بعضها، فأدركوا بالغريزة أهمية حياة الجماعة للحفاظ على البقاء، وانتظموا في مجموعات سياسية، واجتماعية، وفكرية، وإبداعية، قادتهم إلى التفوق، والنبوغ، وكظم الغيظ، والصبر، وإعداد النفس لمرحلة قادمة لا يعرف مداها في ظل تنامي التطرف الديني إلا حاخامات اليهود، وحجم ردة الفعل العربية.
لقد مثل الاحتكاك اليومي باليهود حافزاً لتميز عرب 48 في كل الميادين الحياتية، فقد أبدعوا في التعلم، وتحصيل الشهادات العليمة، وأبدعوا في فن البناء، وفي وسائل الإنتاج، وفي إنجاز الأعمال الشاقة، وفي التقدم الزراعي، والصناعي، وفي الثقافة، وفي الفن، وفي حب الحياة، لتسمع أجمل الأغاني، وأعذب الألحان تصدر عن عرب 48، وتقرأ أرق الأشعار، وأعذب الكلمات عندهم، ولديهم أعمق الدراسات والأبحاث الفكرية باللغتين العربية والعبرية، فإن كانت القدس مجال تضحية الشيخ رائد صلاح، فإن انكشاف الرؤيا كان من نصيب الدكتور عزمي بشارة، ليصير الشعر قرين الشاعر محمود درويش، ويصير الأسير "سامي يونس" ابن الثمانين عاماً نموذج الوفاء لفلسطين حتى هذه اللحظة، وما أكثر النماذج!.
قبل أيام تنبه الدكتور فاروق مواسي، كاتب وأديب من عرب 48، تنبه إلى خطأ ـ في همزة القطع ـ وقعت فيه في أحد مقالاتي، فأرسل لي تصويباً! لقد شعرت أن هؤلاء الرجال لا يحرسون الوطن فقط، وإنما يحرسون اللغة العربية، ويراقبون الحاضر، ويحفظون التاريخ، ويرسمون بوقع أقدامه جغرافيا الوطن، قلوبهم الشجن، ويحلمون بانفراجة الزمن!.

CONVERSATION

0 comments: