عيد الميلاد: مبروك المولود الجديد/ ناجي امل الوصفي

أنور حرب
إهداء
اهدي هذا المقال المتواضع
لأخي وزميلي في سجن الجاذبية الأرضية أنور حرب

المصريون مشهورون بجنازاتهم الصاخبة. وهناك قوم يستأجرون ندابين وندابات للقيام بالواجب واطلاق الصرخات المفزعة وذرف الدموع الساخنة في "الصيوان" الذي ينصبونه في عرض الطريق غير عابئين بسده وتعطيل حركة المرور ليوم أو يومين. وعندما تدخل صيوانا من هذا النوع تصم أذنيك صرخات مرعبة وعويل (يقطع القلب) ونحيب يهز عظامك ويصيبها بمرض لين العظام المؤقت فترتجف ركبتيك وترتعش قدميك مثل مَن صعقه تيار كهربائي ينبع من مصدر ذو فولت عالي.
هذه العادة المتخلفة ظلت تطاردني في طفولتي وتؤرقنـي في مضجعي طوال شبابي وتجلب الدموع إلى مقلتي أنهارا حتى بلغت عامي السادس والعشرين. وكنت دائما اسأل نفسي: لماذا كل هذا الشجن؟ وهذا النحيب الذي يقلق الميت في رقدته، ما فائدته؟ وهذا الحشد من العاطلات الباكيات المتشحات بالسواد، إلى ماذا يرمز؟؟؟ 
وفي عامي السادس والعشرين جئتُ إلى استراليا. وفي استراليا تعرفت على إمرأة مجرية. (عفوا سيدتي لقد نسيت أسمك في خبل شيخوختي.) قرأت عليها قصيدة من أشعاري الانجليزية. ورحت اتابع لغة عينيها في مرآة الروئيا الخلفية: كتاب مفتوح: من هذا الشحاذ الذي يرتدي ثياب بالية ويعمل كسائق تاكسي ويلقى على ركابه قصائد شعر مكسورة في كل بحورها ولكن رنات كلماتها تتحدى قواعد النظم وقوانين البحور العربية والأنجليزية والمجرية معا؟؟!!
لسبب لا يعلمه إلا خالق السماء المنحنية وباسط الارض الكروية، دعتنـي المجرية لحضور جنازة والدها. أجبرني جمالها الخارق على قبول الدعوة.
وفي اليوم التالي تذكرت الصيوان والعاطلات المتشحات بالسواد والصرخات والنحيب والعواء. ورحت ابحث في حقيبتي العتيقة عن قميص أسود ورابطة عنق لها لون الهباب الصاعد من اتوبيس رقم مائة وثلاثين بشرطة! هيهات! هيهات! وانتهى بي الأمر باستعارة قميص اسود ورباط عنق فاحم السواد من شخص أكبر منـي حجما.
وفي اليوم المحدد ارتديت القميص وربطتُ ياقته بالكرافته ونظرت إلى نفسي في المرآة المعلقة خلف الباب الرئيسي لمنزل عبدو عكننة؛ يالا الهول يازلمة! لقد رأيت تشارلي شابلن ينظر إلى من داخل المرآة!
بهكذا ملابس سوداء (مبهوئة) استقليت القطار إلى ضاحية بعيدة لا اذكر أسمها ومن هناك رحت أسأل المارة واحد بعد الآخر حتى وصلت إلى العنوان.
ويحك يا أخا العرب!! بحديقة المنزل الأمامية رايت حسنوات في سياب زاهية الألوان: الاصفر والبرتقالي والوردي؛ ورجال يرقصون؛ وشباب يحتسون الخمر كؤسا عامرة! فقلت لنفسي: لقد اخطأت في العنوان لا محالة. وهممت بالانصراف.
هاي! يو! تاكسي دريفر!
استدرت والدهشة في عينـي. وإذا بالمرأة المجرية نصف عارية تقف أمامي. مرت لحظات تثاقل خلالها الصمت وطمس صخيب المعزيين.  رمتنـي بنظرة يملؤها الاحباط وخيبة الأمل وقالت: لا تكن متخلفا وإخلع هذه الكرافتة الكئيبة وإملئ لنفسك كأس من الويسكس وشارك في الاحتفال بميلاد أبي!!
قُلتْ: ميلاد مَنْ؟!!!
قالتْ: ميلاد أبي. شدتنـي من يدي ودلفنا إلى الداخل وجلسنا على مائدة خشبية عتيقة وراحت تشرح لي نظرية الميلاد.
قالت: نحن المجريون نعتبر يوم الممات هو يوم الميلاد الحقيقي. قُلتْ: وكيف يكون ذلك؟ قالت:  ظننتك شاعرا بحق وحقيقي! ولكنك خيبت أملي. ومع ذلك سأشرح لك لعلّ ذيلك يضمر قليلا! أنا وأنت وهؤلاء المحتفلون بميلاد أبي وجميع البشر نعيش في سجن العالم المادي. نحن سجناء الزمان والمكان؛ منذ أن ولِدْنا ونحن نعيش في سجن الجاذبية الأرضية والقصور الذاتي والحروب العبثية والصبيانيات  المخابراتيّة والجهل والفقر والمرض والأحلام الرأسمالية المريضة والجري وراء تكديس الأوراق النقدية وشراء العقارات والمظاهر الكدابة. ونظل ندور وندور في هذه الدائرة المادية حتي يحل يوم خروجنا من هذا السجن. ألا تعتقد أيها الشاعر المتخلف أن الاحتفال بيوم الخروج من السجن أمر طبيعي جدا ولا غرابة فيه؟؟؟
لا أعرف ما الذي جعل هذه المرأة تنقلب رأسا على عقب وتتحدث إلى بهذه اللهجة المشينة وشعرت برغبة شديدة في السخرية منها قبل أن اغادر المكان؛ فقلت بلهجة تهكميّة: لو كان هذا الكلام (التعبان) الذي صدعتي به راسي صحيحا، فلماذا لا ننتحر جميعا للخروج من هذا السجن؟ لماذا لا تنتحري حتي يحتفل اصدقائك بعيد ميلادك؟
قالت المجرية الفاتنة: أنت مثل كلّ العرب تفكر بقلبك وليس بعقلك! وهذه هي مصيبتكم السوداء مثل هذا القميص قبيح اللون الذي ترتديه. الأنتحار هو محاولة للهروب من السجن. ولا شك عندي في أنك تعلم جيدا ما هي العواقب الوخيمة لهذه المحاولة. أنها محاولة حمقاء وفي منتهى الغباء!!!
لماذا؟
لأن السجانة سيلحقوا بك وسيعيدوك إلى السجن وسيجلدوك ثلاثين جلدة كلما كررت المحاولة! كل الذين حاولوا الهرب عادوا مرة أخرى إلى هذا السجن. هل فهمت الآن أيها الشاعر الولهان لماذا نحتفل بيوم الممات وننرقص ونغنـي ونقرع الكؤس مبتهلين بيوم الميلاد الحقيقي؟؟؟
نعم سيدتي! فهمت! أنت تحتفلين بعيد ميلاد والدك فالموت في حضارتك المجرية هو الميلاد الحقيقي.
وضعت يدي في جيب بنطلوني وتحسست رسالة العزاء التي قضيت اللية السابقة كلها في كتابتها باسلوب الشعر المنثور. لقد اضعت وقتي في كتابة رثاء لا ضرورة له في هذه المناسبة. أخرجت يدي فارغة وطلبت ورقة ملونة ولما أتتب بها إلى كتبت عليها بخط جميل: سيدتي الساحرة الفاتنة، مبروك المولود الجديد!
وغادرت المكان. ولم التقي بهذه المرأة بعد ذلك. ونسيت اسمها. ونسيت ملامح وجهها. وانمحت من ذاكرتي عطر أنوثتها. ولكن صدى كلماتها ظل يتردد ويتكرر ويعود إلى اذني مرة تلو المرة.
أخي العزيز أنور حرب، الأمر يحتاج إلى شجاعة!  واشعر أن لدي الشجاعة الكافية لكي اقول لك: مبروك المولود الجدبد. وأطلب من رب المجد يسوع المسيح أن يمد طرف اصبعه ويلمس قلبك فيخف ألم الفراق ويقل حزن الانسلاخ من احضان ست الحبايب.

CONVERSATION

0 comments: