سبق وتحدثنا في مقال سابق عن منطقين من التفكير يتبناهما بشكل كبير أغلب مثقفي العالم العربي، فجاء من يسألنا عن الطينة التي نحن منها إذ ننتقد نمطي التفكير معا. ونحن هنا لا نريد الرد أو الجواب عن السؤال، بقدر ما نسعى إلى مزيد من التوضيح بغرض التنوير ولا شيء غير التنوير.
نعم، إن القسم الأكبر من مثقفي "الربيع العربي" يتبنون الفكر التقليدي، والقسم الباقي منهم يفكر حسب فكر انتقائي. والاتجاهان معا يوصلان حتما إلى نفي العمق التاريخي. وإذا علمنا أن التاريخ كماض وحاضر يكون واقع الشعوب اليومي، فكل ما يؤدي إليه اتجاهي التفكير هذين هو العجز عن إدراك الواقع كما هو. والنتيجة طبعا، وكما تؤكد ذلك أحداث "ربيع العرب"، هي التبعية وعلى كل المستويات.
لن نختلف في أن طبيعة الفكر الانتقائي هي فتح الأبواب لكل المؤثرات الخارجية. ولنا أن نؤكد هنا، وبعد كثير تأمل، أن طبيعة الفكر التقليدي، برغم ادعاءاته الواهية، هي التسامح شعارا ونظريا ثم الخضوع يقينا وتطبيقا. وبذلك فالفكرين معا يرسمان صورة سيئة جدا للماضي والمستقبل. إذ الأول يحاول ربط نفسه بفكر العصر بدل أن يكون هو إحدى تجليات هذا العصر. أما الثاني فتائه غير واع بذاته يجتهد لتمتين علاقته بالماضي بدل العمل على تدشين قطيعة ابستملوجية معه. إذ كيف يستطيع هذا النوع من الفكر الوقوف في وجه الأنظمة الاقتصادية والاتجاهات الفكرية والتيارات الاجتماعية المهيمنة عالميا، وهو عاجز عن دراستها وفهمها فأحرى أن يعمل على إبداع أنظمة بديلة عنها؟
والأكيد هنا أن التبعية سواء كانت ظاهرة كما هو الحال عند أهل الفكر الانتقائي، أو خفية كما عند فطاحلة الفكر التقليدي، لن تؤدي فقط إلى الاستغلال والخضوع، بل إنها تؤدي إلى تعميق التخلف... وهذا ما تؤكده تجارب الدول المتخلفة التي سعت إلى نزع رداء التخلف من خلال التحالف مع الغرب الامبريالي(...). قد تحصل تلك الدول على بعض الرساميل، وقد ترتفع فيها أرقام الدخل والإنتاج ظاهريا، لكنها لن تستطع التغلب على التخلف كواقع اجتماعي. وقد يكفي حدث صغير بحجم التظاهر ضد محاولة الحكومة تغيير معالم حديقة عمومية مثلا، لإظهار الوهن واستبيان أن السلوكيات الديمقراطية الظاهرية ليست إلا درا للرماد في العيون مرحليا، سعيا لقضاء مآرب أخرى. وأن كل الادعاءات ليست بالضرورة من صلب السعي لتطوير المجتمع كما قد يعتقد كثيرون (...)
ولا غرابة، فالفكر التقليدي ومن خلال ادعائه السعي للحلول في شخصيات السلف الصالح(...) نجده يوظف الايديولوجيا للتغطية على النقص المعرفي، ونتيجة هذا التوظيف لن تتجاوز هيمنة الأصولية التي تدفع في اتجاه التطرف واللعب على النعرات الطائفية والقبلية، ما يجعل الحاضر مسيجا بالماضي من كل الجوانب... ولعل الغاية من تكريس الأوهام تلك، هي إبعاد الناس عن الواقع والانجاز... فتتحول الممارسة السياسية عند أصحاب هذا الفكر إلى تكتيك يتبعه تكتيك يتبعه آخر(...) إذ نجدهم اليوم يتحالفون مع الناتو تكتيكيا، يصافحون الصهاينة تكتيكيا، ويلتزمون بالاتفاقيات الدولية تكتيكيا، ثم يتعاملون مع المؤسسات المالية العالمية تكتيكيا... وهلم تكتيكات يتأكد من خلالها كل من لم يتلوث فكره بمبيدات العقل التي لا يكل ينفثها الذراع الدعوي لهذا الفكر، أن هؤلاء لا يميزون بين إستراتيجية وتكتيك.
قد يعتبرني البعض فظا إذ أقول أن من يصرون بعنف بغيض على تسمية أنفسهم بالإسلاميين هم في الأغلب الأعم حركات لم تصل الحكم إلا بعد أن أصيب فكر قادتها بقصور أشبه بالقصور الكلوي الذي إذا أصيب به إنسان أصبح مجبرا على زيارة مراكز تصفية الدم مرتين في الأسبوع على الأقل(...) وحيث أني أعلم أن من يشرفون على مراكز التصفية تلك لا يقدمون خدماتهم بالمجان، فلن أستغرب إذ أرى إخوان الربيع العربي يغلقون سفارة سوريا بالقاهرة بدعوى إجرام النظام السوري بينما هم أنفسهم من يحف سفارة إسرائيل بالورود ويدافع عن ضرورة بقاء أبوابها مفتوحة خدمة للأمن القومي المصري واحتراما لاتفاقية كامب ديفيد المقدسة... ولن استغرب بعد اليوم مادمت اسمعهم يغيرون شعارات من طينة "الله اكبر عاصفة... لليهود ناسفة" "على القدس رايحين... شهداء بالملايين" وغيرها من شعارت بهتان ما قبل القصور الفكري الذي كشفه الوصول إلى الحكم، بشعارات من قبيل "المسيحي إلى بيروت... والشيعي على التابوت" و"حزب اللات يا حقير" ثم الدعوة إلى "تحرير دمشق من الرجس الشيعي الفارسي" وغيرها من ترجمات لأقوال "أفيخاي أدرعي" الشهيرة خلال حرب تموز 2006. فالثابت عندهم هو الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها، أما ما عدا ذلك فمتحول لا بأس إن تناسيناه أو أهملناه أو حتى غيرناه.
ومادام الكل متحول ووحده كرسي الحكم ثابت فلا عجب إذ نراهم اليوم ينهش بعضهم بعضا، ويكفر بعضهم بعضا، ويشتم بعضهم بعضا... ونرى "الفقهاء"، نجوم الفظاعيات الذين لم تكن كل تدخلاتهم في الحياة العامة تتجاوز فتوى إرضاع الكبير والاستمناء بالجزر والحديث عن إقامة الحد على القرد الزاني وحتى التداوي ببول البعير... نراهم وقد تحولوا بقدرة قادر إلى محليلين استراتيجيين ودعاة جهاد في ارض الإسلام، يهدرون دم هذا ويحلون سبي نساء أولئك ويجيزون نحر أطفال ذاك وتدمير مدن هؤلاء... أليس كل ذلك سلوكا طبيعيا فقط عندما يكون الصراع على فريسة لا على أساس مبادئ؟ وكيف لي أن أكون ساذجا وأتحدث عن مبادئ وأنا في حضرة آل الفكر التقليدي المؤسس على النفاق، والذين في عرفهم، لا يكون العنف سيئا في حد ذاته، بل السيء أن يتبناه غيرهم.
يبقى فقط أن أختم بالدعوة إلى اجتهاد فكري معاصر قوي وفاعل. فالإسلام، وإن كان يتضمن تنظيرات ورؤى حول وحدة الإنسانية والاستخلاف والعمران والتوازن في الكون وغيرها، إلا أن الممارسات في تاريخ المسلمين وواقعهم تثير أكثر من علامة استفهام حول الفجوة بين الأصل وبين الواقع.
المغرب
0 comments:
إرسال تعليق