الفلسطينيون بين الأمس واليوم/ د. مصطفى يوسف اللداوي


مضت سنواتٌ على الإنقسام الوطني الفلسطيني، منذ أن انقلب الشركاء الفلسطينيون على نتائج الإنتخابات التشريعية الفلسطينية، ورفضوا نتائجها رغم نزاهتها وعدليتها، وحاولوا إفشال الفائزين فيها، والحيلولة دون ممارستهم لحقهم في تشكيل وإدارة الحكومة الفلسطينية، ووضعوا أمامهم العراقيل والعقبات، وخلقوا لهم الفتن والمؤامرات، وعملوا على عزلهم ومحاصرتهم، وتجفيف منابعهم، وقطع علاقاتهم، وتأليب المواطنين عليهم، وتحريض الجوار ضدهم وعدم التعامل معهم، ودعوا العدو للتضييق عليهم وقتل نشطائهم، واعتقال قادتهم ورموزهم ونوابهم، واجتياح المناطق والمدن، وتقطيع أواصر الوطن بالمزيد من الحواجز ونقاط التفتيش، لإرباك الحياة العامة، وتعقيد الحياة في ظل الحكومة المنتخبة لتفشل وتتنحى، ثم أعمل طائراته ودباباته فقصفت قبل الحرب الشاملة المدمرة على قطاع غزة، العديد من الأهداف الفلسطينية في قطاع غزة وفي الضفة الغربية على السواء، فقتلت المئات من الفلسطينيين، من كل الفئات الشعبية، ومن كل الفصائل الفلسطينية، دون تمييزٍ بين فلسطينيٍ وآخر.

أما الشركاء في الوطن الذين كانوا قد سبقوا بمراحل كثيرة العدو في التضييق والملاحقة، وفي الاعتقال والقتل أحياناً، وفي أعمال المصادرة والمداهمة والحرمان، فقد ساعدتهم على تنفيذ سياستهم والإصرار على مواقفهم، الولاياتُ المتحدة الأمريكية ودول غربية كثيرة، ممن يدعون الديمقراطية، ويدعون إليها، ويحرصون على احترام نتائجها، وعدم الإنقلاب عليها، فرفضوا التعامل مع نتائج الانتخابات أو الاعتراف بها، ودعوا المجتمع الدولي إلى مقاطعة الحكومة الفلسطينية، والإمتناع عن تقديم العون والمساعدة لها، وامتنعوا عن زيارة مناطقها، أو الاجتماع بمسؤوليها، وحرضوا الحكومات العربية على التعامل معها بالمثل، وعدم الاعتراف بشرعية حكومتها، وعدم تسهيل عملها، أو تذليل الصعاب أمامها، ووقفت عقبةً أمام محاولات إعادة إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فأكدت على منع وصول المساعدات الإنسانية، والمعونات المالية، وأدوات وآليات البناء والإعمار، لئلا يتمكن الفلسطينيون من استعادة حياتهم الطبيعية بعد الحرب الهمجية الإسرائيلية عليهم.

أما دول الجوار فقد كانت أقسى على الحكومة الفلسطينية المنتخبة من العدو القريب والبعيد، فهم الأهل وذوو القربى فكانوا أشد مضاضةً على الحكومة الفلسطينية وعلى الفلسطينيين عموماً من العدو، فشددوا الحصار على الفلسطينيين، وضيقوا عليهم سبل العيش، ومنعوهم من السفر والانتقال، للدراسة أو العمل أو العلاج، وصادروا أموالهم، واعتقلوا الكثير منهم، بل قتلوا بعضهم تحت سياط التعذيب في أقبية السجون والزنازين، بأوامر مشبوهة، وسياسة متآمرة، واتفقوا مع العدو والمصنف عندهم حليفاً وصديقاً، على بناء المزيد من الجدر والأسوار الاسمنتية والفولاذية، وتشديد المراقبة والحراسة، وملاحقة المتعاونين والمتضامنين، والحيلولة دون وصول النشطاء الدوليين، بسفنهم أو فرادى بأنفسهم، إلى غزة المحاصرة، ولم يأبهوا بالقصف الإسرائيلي الذي يلاحق بالموت الفلسطينيين في كل يوم وفي كل مكان، ولم يحزنوا لأعداد الشهداء المتزايدة، ولا للمرضى الذين يموتون، ولا الأطفال والنساء الذين يتلوون من الجوع والألم، ولا الجرحى الذين يختطفهم الموت وهم على بعد أميالٍ معدودة من المستشفيات والمؤسسات الطبية.

الشريك الفلسطيني بعد هذه السنوات الطويلة أدرك، أو يجب عليه أن يدرك خطأ سياسته في التعامل مع شريكه الآخر، وأنه لا يستطيع الإنقلاب على الشرعية، ولا يقوى على إنكار نتائج الانتخابات التشريعية، ولا يستطيع حرمان الفائزين فيها من حقهم في ممارسة الحكم بموجب الديمقراطية ونتائج الانتخابات التشريعية، وقد أدرك الشريك الفلسطيني بكل رموزه أنهم كانوا جزءاً من المؤامرة أو الأزمة، عندما خلقوا العقبات أمام الحكومة الفلسطينية، وصنعوا لها الصعاب لئلا تنطلق أو تتحرك، وها هم رموز الفتنة، وصناع الأزمة، الذين كانوا بالأمس يدقون على طبول الحرب والقتال، والذين كانوا وراء الظلم والعسف الذي تعرض له الفلسطينيون في السجون والمعتقلات الأمنية الفلسطينية على اختلافها وتعددها، يفتضح أمرهم، وتكشف أسرارهم، وترد أسماؤهم في وثائق ومستنداتٍ عديدة، ويعلن الأصدقاء والأعداء أن هذا الفريق هو الذي كان يتآمر، وهو الذي كان يصنع الفتن والأزمات، وأنه هو الذي كان يحرض ويؤلب، ويتآمر ويخرب، فعلى الفريق الفلسطيني الذي ادرك تآمرهم أن يقلب لهم ظهر المجن، وأن يبعدهم ويقسيهم، وأن يحاسبهم ويعاقبهم، فهم الذين أفسدوا العيش الفلسطيني، وعقدوا سبل التفاهم والتعايش المشترك بين أبناء الوطن الواحد.

أما العدو الإسرائيلي فهو على طبيعته المعهودة، وحاله القديم، وسياسته الثابتة، لا يغير ولا يبدل، يملؤه الحقد، وتحركة العنصرية، ويغذيه الكره، لا يعرف غير وسائل الغدر والقتل، بجبنٍ وخسةٍ ونذاله، لا تهمه المصالح الفلسطينية، ولا يأبه للأرواح التي تزهقها آلته العسكرية، ولا يتوقف نهمه اليومي عن القتل والطرد والاعتقال، وعن التخريب والمصادرة وبناء المزيد من المستوطنات، فهو لم يغير سياسته، ولن يتخلى عن طبيعته، وسيبقى هو العدو الأول والوحيد، الذي تتناقض مصالحه مع مصالح شعبنا وأمتنا، أياً كانت الحكومة الفلسطينية، وأياً كان الفائزون في المجلس التشريعي الفلسطيني، فعدوه هو الفلسطيني أياً كان انتماؤوه السياسي، أو ولاؤه التنظيمي.

أما الجوار فقد انقلب على ماضيه، واستنكر فعل أسلافه، وبدأ يصلح ما أفسده السابقون، وما خربه المتآمرون على القضية الفلسطينية، فاستعاد ماضيه الدافئ، وعلاقاته الأخوية الحميمية مع الشعب الفلسطيني، فأفرج عن المعتقلين في سجونه، والمحتجزين في مختلف المراكز الأمنية، ورفض الخضوع للإملاءات الإسرائيلية والأمريكية، وأكد أنه لن يكون جزءاً من الحصار على غزة، وأن من أولوياته في المرحلة القادمة العمل مصرياً وعربياً ودولياً على رفع الحصار عن قطاع غزة، والتخفيف عن سكانه، وتسهيل إعادة إعماره، كما أخذ يغير في قواعد الفكر القومي، فاستعاد حالة العداء مع الكيان الصهيوني، الذي يعده عدواً له، لا يأمن جانبه، ولا يسلم من بوائقه وأشراره، وحذره أكثر من مرة من مغبة الاعتداء على قطاع غزة، أو ترويع سكانه وقتل أهله، وسهل في سابقةٍ عربيةٍ مشهودة، للمجتمعين باسم الدول العربية استصدار قرارٍ بتوصية الأمم المتحدة فرض حظرٍ للطيران العسكري الإسرائيلي فوق قطاع غزة.

المشهد الفلسطيني اليوم تغير عما كان عليه بالأمس، وسيتغير أكثر في المستقبل القريب، وسيجد كل اللاعبين في الملعب الفلسطيني أن شروط اللعبة قد تغيرت، وأن الظروف التي كانت سائدة في الفترة السابقة لم يعد لها وجودٌ اليوم، ولكن اللاعب الأساس، وهم الفلسطينيون الشركاء وكل الأطراف، فإن عليهم أن يدركوا أن المرحلة قد تغيرت، وأن الشروط قد تبدلت، وأن الشعب الفلسطيني ينتظر منهم أن يفهموا وأن يدركوا أن التغيير قد طال كل شئ، وأنه آن الآوان لأن يطال عقولهم وتفكيرهم وسياساتهم وأولويات عملهم الوطني، وإلا فإن سيل التغيير جارف، وطوفان الثورة قادم.

CONVERSATION

0 comments: