تساؤلاتٌ تركية حول القضية الفلسطينية/ د. مصطفى يوسف اللداوي


مضى على انتهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أكثر من عامين، ولكن الشارع التركي لم ينس ويلات الحرب الدموية التي اكتوى بها فلسطينيو قطاع غزة، على مرأى ومسمعٍ من دول العالم كلها، يقولون عنها أنها كانت حرباً مهولة قتلت المئات من الفلسطينيين، وخربت بيوتهم ومساكنهم، ودمرت معاملهم ومصانعهم ومزارعهم، ولم تبقِ على شئِ من معالم الحياة الإنسانية في القطاع، وما زال جرحى هذه الحرب العدوانية في المستشفيات التركية، شاهدين على وحشية العدوان الإسرائيلي، بعضهم مبتور الأطراف، لا يستطيع الحركة دون عجلاتٍ أو مساعدة، وبعضهم مشوه الجسد، محروق الجلد، يعاني من جروحٍ وإصاباتٍ وعاهاتٍ مستديمة ومقعدة أحياناً.

ولا يستطيع أن ينسى الأتراك شهداءهم الذين سارعوا لنجدة أهل غزة ومساعدتهم، فركبوا البحر، وشاركوا في قافلة الحرية، وعرضوا حياتهم للخطر، نصرةً للمحاصرين والمعذبين في غزة، فكان جزاؤهم القتل برصاص وحداتٍ عسكرية من البحرية الإسرائيلية، ولكنهم ما زالوا على موقفهم المتحدي والمناصر للقضية الفلسطينية، غير عابئين بالقتل الذي أصابهم، ولا بالإعتداء الذي لحق بهم، ولا بالخطر الذي قد ينتظرهم، فهم يستعدون للعودة من جديد إلى قطاع غزة، بقوافل إغاثة وعونٍ إنسانية، لتساهم في رفع الضيم والظلم عن إخوانهم الفلسطينيين، يعدون العدة، ويشحذون الهمم، ويستحثون الخطى للإنطلاق، ويتنافسون فيما بينهم أيهم يساهم ويشارك.

ولكن الشارع التركي كله، المثقفون والكتاب، والطلاب والعمال، الرجال والنساء في كل المدن التركية، في العاصمة السياسية أنقرة، وفي العاصمة الاقتصادية والسياحية استانبول وغيرها، يطرحون تساؤلاتٍ مشروعة على ضيوفهم الفلسطينيين، الذين يلتقونهم في المؤتمرات والمنتديات، وفي الشوارع والمقاهي، كما في المساجد والجامعات، يطرحون العديد من الأسئلة، ويثيرون الكثير من القضايا، وكلها قضايا محقة، وهموم حقيقية، وتساؤلاتٍ منطقية، قد لا نملك القدرة على الإجابة عليها، ولا القدرة على إقناع مثيرها أو السائلين والمناقشين، وقد لا تعجبهم إجاباتنا، فيمطون شفاههم في دلالةٍ على عدم اقتناعهم، أو يهزون رؤوسهم رفضاً لما يسمعون، ويحار من يلتقيهم كيف يقنعهم وهو الذي قد يحتاج إلى من يقنعه فيما يطرح ويجيب.

يتساءلون ببراءةٍ وشفافيةٍ وصدق، دون وجودٍ لسوء نية، أو حساباتٍ سياسية حزبية، ودون توجيهٍ من أحد، لماذا لا يتفق الفلسطينيون وينهون انقسامهم، ويوحدون جهودهم، ويجمعون كلمتهم، فقد طال أمد الإنقسام والاختلاف، وقد ذهبت النظام الحاكم في مصر الذي كان يعيق الاتفاق والتفاهم، وليس من مستفيدٍ من الحال البائس الذي وصل إليه الفلسطينيون غير إسرائيل، فكيف تحققون أمانيها، وتقدمون لها اختلافاتكم على طبقٍ من ذهب.

ويتساءلون لماذا يفضح الفلسطينيون أنفسهم في مختلف وسائل الإعلام، يسيؤون إلى قضيتهم، ويشتمون بعضهم البعض، ويتبادلون الاتهامات فيما بينهم، ويلقون باللائمة على أنفسهم، ويبرؤون إسرائيل مما ارتكبت في حقهم من جرائم ضد الإنسانية، ويحرصون على عدم إحراجها، ويكذبون على بعضهم، ويتآمرون فيما بينهم، ويتنافسون في وسائل الإعلام أيهم يدحض حجة الآخر، ويكشف عن المزيد من أسراره، مستنكرين ما كشفته وثائق ويكيلكس من أن بعض الفلسطينيين قد شجع الحكومة الإسرائيلية ودفعها لمهاجمة قطاع غزة، والعدوان عليه عسكرياً، وأنها كانت تشجعها على مزيدٍ من الصبر أملاً في تحقيق بعض الأهداف المشتركة بينهم.

يتساءل الأتراك لماذا توجد سجونٌ فلسطينية، ولماذا يعتقل فيها مئات المناضلين الفلسطينيين، فهل استعاد الفلسطينيون وطنهم، وحرروا أرضهم، وأصبح لزاماً عليهم أن يبنوا سجوناً ومعتقلاتٍ لسجن المعارضين والمخالفين، والذين يهددون أمن الوطن وسلامة المواطنين، والمتهمين بأنهم يناضلون لاستعادة حقوق شعبهم في أرضهم ومقدساتهم، ويستغربون بشدة حوادث القتل التي تقع في السجون الفلسطينية خلال عمليات التحقيق والتعذيب، يستنكرونها بشدة ويرفضونها بغضب، ويشعرون أنها فوق قدرتهم على الفهم والاستيعاب، وأنه لا ينبغي لها أن تكون، فإن كان قتل الفلسطينيين على أيدي الاحتلال الإسرائيلي مستوعباً ومفهوماً، فإن قتلهم على أيدي الفلسطينيين أمرٌ مستنكرٌ وغريب، ويتساءلون لماذا تقمع حريات الفلسطينيين في ظل حكوماتهم، ولماذا يمنعون من التعبير عن أراءهم، ولماذا يتم الاعتداء على الحريات الشخصية، وتصادر حرية التعبير والتظاهر، ولماذا لا يتم إشراك الشباب في هموم وطنهم، ولماذا يقمعون بالقوة، ويضربون بالهراوات، ولماذا تعج المناطق الفلسطينية بالأجهزة الأمنية المتعددة والمختلفة، والتي تعقد حياة الفلسطينيين بدلاً من أن تكون عوناً لهم.

يتساءلون بغضبٍ وحيرة، وخوفٍ وقلق، لماذا قتل المتضامن الإيطالي فيتوريو أريغوني، ومن هي الجهة التي تقف وراء جريمة قتله، وهو الذي ترك أهله وبيته العامر ليتضامن مع أهل غزة، وقد عاش معهم وبينهم وعانى مثلهم، بعضهم يقتنع بأن المجموعة التي قتلته مجموعة مارقة لا تمثل الفلسطينيين، ولا تعبر عن أخلاقهم وقيمهم العربية والإسلامية، ولكن آخرين يصمتون بحرقة، ويرفضون أي تفسيرٍ للحادثة، ولكنهم يأملون أن يتجاوزها المتضامنون الدوليون، وأن يقبلوا اعتذار الفلسطينيين عامةً وأهل غزة خاصة.

كثيرةٌ هي التساؤلات التي نعجز عن الإجابة عليها، ونحار في كيفية التخلص منها والإلتفاف عليها، فهي تساؤلاتٌ منطقية تحرجنا كثيراً، وتشعرنا بالخزي الشديد ونحن نحاول أن نقنعهم بما لا نقتنع به، وهي ليست تساؤلات تركية فقط، بل هي تساؤلات عامة، إسلامية وعربية وفلسطينية ودولية أحياناً، ينبغي علينا أن نتجاوز سلبيتها، وأن نمتلك القدرة والجرأة على الإجابة عليها، ومع ذلك فإن مشاعر الأتراك مازالت مع الفلسطينيين، وقلوبهم تدعو الله أن يحفظهم، وأن يكون معهم، وهم لا يألون جهداً في الدفاع عن القضية الفلسطينية، ويقولون بأنهم لن يتخلوا عنها ولا عن أهلها، ولن يقصروا في مساعدتهم والوقوف معهم، ولكن على الفلسطينيين أن يقدروا لهم ذلك، وأن يساعدوا أنفسهم بأنفسهم، ويشجعوا الآخرين على الإيمان بقضيتهم، ليسهل عليهم التضحية معهم في سبيلها.

CONVERSATION

0 comments: