تبدو الصورة ، أحياناً ، في الشرق الأوسط ، واضحةً مضيئةً ، وفي أحيانٍ أخرى باهتةً معتمةً ، وأحياناً ضبابيةً . وتبدو فيها الأحداث تتلاحق مسرعةً ، تحملُ معها تغييرات دراماتيكية تجعلنا نقف على عتبة
الذهول. مواقف وتحالفات عربية وإقليمية تتبدل وتتغير ، بينَ تارةٍ وأخرى ، وفقاً لتبدل المصالح والأهداف ، وعلى ضوئها تتبدل السياسات الإقليمية والدولية ، وتنبعث علىالسطح استراتيجيات بائدة
واخرى جديدة تلائمها .
مضى العقد الأول من هذا القرن يحمل معه متناقضاته ، مضى مفعماً بتغيرات مهمة كان من أبرزُها إنكشافٌ فاضح للسياسات الإستعمارية وللقوى الإمبريالية ، ووضوح في الرؤيا لميزان التقيمات الدولية ، في ظل نظام دولي جديد كادت ملامحه تتبلور، بل كادت تترسخ على المستوى الدولي ( نظام ما بعدَ الحرب الباردة ، نظام الأحادية أو القطب الواحد)حيثُ أفرزت تعبيراتُه استخداماً مفرطاً للقوة العسكرية ، تجلى باحتلالات مباشرة" لأفغانستان ، والعراق " والإنحياز السافر في معادلة التقييم للمواقف الأمريكية اتجاة النزاعات الدولية ، ما يعني الكيل في مكيالين بين "اسرائيل والعرب " . اتضحت الصورة في نهاية عصر الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الذي كان يُطلق عليه عصر المحافظين الجدد ، ذلكَ العصر الذي استوفى مداه الزمني ، ثمانية أعوامٍ ، جاءت على المنطقة العربية بالخراب والشقاء والوبال ، وأسدلت على العلاقات الدولية ستائر التوتر .
في نهاية تلك المرحلة الأمريكية ، تحطمت آمال المحافظين الجدد ، وانكسرت تطلعاتهم في تسويق مشروعهم الذي كانوا يسمونه" الشرق الأوسط الجديد " بفعل نهوض المقاومة العراقية الباسلة ، وتصديها لمهامها الوطنية التحررية ، فتهاوت العنجهية الأمريكية ، وسقطت بالتالي سياسة التفرد بمصير العالم ، والتحكم في مستقبل الأمن والسلم الدوليين ، وعادت مصطلحات الوفاق والسلم تنبضُ في سطورالعلاقات الدولية ، وعلى متن صفحاتها . في نهاية تلك المرحلة السوداء بدا العالم كأنه مقدمٌ
على عملية تغيير واسعة النطاق ، ينتقلُ فيها من مرحلة الى أخرى ، في عهد أمريكي جديد عنوانه التغيير، وقد تجلى بفوز الرئيس أوباما من الحزب الديمقراطي الأمريكي في رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية .
في ظلٍ جديد ، بدا التغيير الأمريكي المنشود بحاجة الى وقت كافٍ ، والى معالجات ضرورية وأساسية ، كما أنه بحاحة الى تغيير في القوة والمؤسسات والهياكل البنيوية الفاعلة والمؤثرة في النظام الأمريكي ( الكونغرس ) ، وفي توفير قوة الدفع للفعاليات المكونة للمصالح الحيوية الأمريكية ، لكن التغيير في الداخل الأمريكي ظهرَ أنه بحاجة الى سنين مديدة ، وخطط واستراتيجيات جديدة ، على ضوء حجم الأزمة الإقتصادية الحادة التي عصفت بأمريكا والعالم بأسره قبل عامين ، والتي مازالت تداعياتها ماثلة أمامنا في الولايات المتحدة الأمريكية وعدد كبير من الدول الأوروبية ، ويبدو أنّه من الصعب التنبؤ بنهاية تلك الأزمة على الصعيدين الأمريكي والأوروبي ، ولكن من الممكن أن يتحقق شيئاً من الإنقاذ الإقتصادي عبرَ مرحلة رئاسية ثانية ، ومن الصعب أن يحقق النظام الأمريكيقدراً من التغيرات في السياسة الخارجية بما يحقق إنفراجاً في صلب السياسة الدولية التي تحكمها المصالح أكثر من المبادئ ، وفقاً لهذا نرى الرئيس الأمريكي أوباما يتابع خارجياً ذات السياسة الأمريكيةالتي كان يتبعها سلفه في كلٍ من أفغانستان وباكستان وإيران والشرق الأوسط عموماً وشمال إفريقيا ، لكن بتكلفة مالية أقل وبثمن يتمُ دفعهُ ، في كثير من الأحيان ، من أموال البلد الذي يقع تحت التدخل الأمريكي أو الأطلسي ، كما هو الحال في الجماهيرية الليبية واليمن ، والعراق سابقاً ، دون أن تتكلف الخزينة الأمريكية أيّ عبئ مالي .
السياسات الأمريكية والغربية خضعت تاريخياً الى شبكة من العلاقات الدولية ذات أهداف استراتيجية ، تعادي الدول العربية بشكل خاص ، وتعمل على تقسيمها وإشعال الحروبالطائفية في مكوناتها، وهو ما كانت تسميه الإدارة الأمريكية السابقة " مشروع الشرق الأوسط الجديد ، والفوضى الخلاقة" .
فقد كشفت تداعيات الحرب الإمبريالية على العراق شهوة الولايات المتحدة الأمريكية للإستيلاء على النفط العربي ، وتنفيذ سياسة التقسيم الطائفي والمذهبي والمناطقي ، وتلبيةأهداف ورغبات منظمة ( الإيباك ) الصهيونية في الحفاظ على الكيان الإسرائيلي كياناً عنصرياً صهيونيا تحت مسمى الدولة اليهودية ، واخضاع دول المنطقة العربية لترتيبات تتفق مع مجريات المشروع التقسيمي التفتيتي ( مشروع الشرق الأوسط الجديد ) الذي يحقق لاسرائيل التفوق والهيمنة والسيادة .
المقدمات التي شكلت القوة المحفزة للثورة :
عوامل عديدة وأسباب كثيرة تداخلت وتفاعلت ، ثمّ تضافرت في دفع الشعب العربي لتفجير إنتفاضات شعبية وصلت الى مستوى الإطاحة بالأنظمة العربية المتسلطة ، والتطلعلولادة عصرٍ عربي جديد ، وأهم تلك العوامل والأسباب :
أولاً– وصول النظم العربية الى مرحلة تاريخية فارقة في التخلي عن الكرامة الوطنية ، والقضايا العربية المشتركة التي تمثل الجامع القومي للأمة العربية ، وخاصة القضية الفلسطينية ، فضلاً عن محاولات سخية ومبتذلة من بعض الأنظمة العربية لارضاء الولايات المتحدة الأمريكية بفتح باب العلاقات مع اسرائيل ، سواء كانت تلك العلاقات سياسية أودبلوماسية أو اقتصادية ، ووصلت الأنظمة العربية الى درجة مذرية من الخضوع للإرادة الأمريكية في تنفيذها لسياسة الحصار والمشاركة اللوجستية والعملياتية للقوات الأمريكية أثناء احتلال العراق ! كما ظهرَ ذروة التردي العربي ، في الإصطفاف العلني خلف اسرائيل ومحاصرة الفلسطينيين ، وبذلك أسقطت الأنظمة العربية المكون الوطني لها ، وفقدت بالتالي منظومة الأمن القومي للأمة العربية ، ما جعل المواطن العربي يشعر بفقدان الكرامة الوطنية ، بل يشعر بالخجل أمام الشعوب الأخرى التي كانت تتظاهر وتتضامن وتناصر قضاياه .
ثانياً– غياب الحياة الديمقراطية عن البلدان العربية ،ومصادرة ارادة الشعب بإجراءات انتخابية صورية تعيد انتخاب الرئيس والمؤسسات والإدارات التي هي ، في الحقيقة ، تأتي كمحصلةطبيعية للانتخابات المزورة ، وباتت الدولة ( الجمهورية أوالجماهيرية أو المملكة والسلطنة والإمارة ) تحت تسلط أسرة الفرد الحاكم ، التي أشاعت فكرة توريث الحكم للأبناء والنساء !
ثالثاً– إشاعة أجواء الفساد في مؤسسات الدولة والحياة العامة ، والتغاضي عنه ، ورفض إجتثاثه باعتباره آفة مضرة للمجتمع ، وجعله نمطاً من أنماط العلاقات الرسمية بين المواطن ومصالحه الحياتية .
رابعاً– وصلت حالة الجماهير العربية الى درجة من الفقر غير مسبوقة بسبب النهب والفساد وغياب النظم الإدارية الرقابية ، والإستغلال المفرط للثروات القومية ،وبيع القطاع العامة ، وطرد الموظفين ، وغياب الحماية الإجتماعية ، فتبددت الثروة القومية واتسعت الفجوة بين الفئات الأكثر فقراً التي انكشفت عروقها ، وبين الفئات القليلة التي تحتكر الثروة الوطنية والمقدرات الإقتصادية.
باتت الجماهير العربية في وضعلا تستطع فيه البقاء تحت مظلة نُظم فاسدة غير وطنية باعت الكرامة الوطنية قبل أن تبيع مقدرات البلدان العربية ، فخرجت الى الشوارع تعلن بالفم الملآن أن( الشعب يريد إسقاط النظام ) .
كاتب فلسطيني مقيم في السويد
0 comments:
إرسال تعليق