مازالت هيئة الإنصاف والمصالحة المغربية تقدم بحبٍ نصحها إلى الشعب الفلسطيني، وتضع بين أيديهم خلاصة تجربتها الرائدة في عمل الهيئة خلال السنوات الماضية، وتبين القواعد الأساسية التي انطلقت على أساسها، والعوامل التي ساعدت في نجاحها، والآليات التي اعتمدتها في عملها، والصعاب والعقبات التي اعترضتها، وعرقلت جهودها، وأخرت ظهور نتائج عملها، ولكنها ترى أنها نجحت في نهاية المطاف في إرساء قواعدِ هيئةٍ وطنية مستقلة، تعتمد المهنية في عملها، والصدقية في توصياتها، وحافظت على المنطلقات الأساسية لحقوق الإنسان، وثبتت قوانين وتشريعات تحول دون خرقها، وتعمل على صيانتها وتطويرها وفق مفاهيم الحاجة والزمن، وترى أنها نجحت في الحد من السلطات الأمنية الاستنسابية، وقيدت عمل المؤسسات الأمنية ورجال التحقيق، وألزمت القضاء بأن يتحرى العدالة والإنصاف في أحكامه، ونأت به من خلال توصياتها عن التبعية والاحتكام إلى مراكز القوة والسلطة والنفوذ، ونجحت أخيراً في دسترة توصياتها، واعتمادها أصولاً وثوابت في الدستور المغربي، لتحميها من محاولات التغيير والتحريف المجهولة.
واستفادة من التجربة المغربية ينبغي على ثلةٍ فلسطينية من المثقفين ورجال القانون والعاملين في المجالات السياسية والفكرية، ومن المنشغلين في علوم النفس والصحة العامة، من الرجال والنساء، ممن يتصفون بالاستقلالية والمهنية والعلمية والعدلية والنزاهة وطهارة الكف وحسن السيرة، وممن يؤمنون بالعمل الوطني العام، وتهمهم المصلحة الوطنية، وتتقدم عندهم على المصالح الشخصية والفئوية والحزبية، أن يتنادوا جميعاً لتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة الفلسطينية، على أن تكون هيئة مستقلة عن الجهات التنفيذية جميعها، وأن يكون ارتباطها بالمجلس التشريعي الفلسطيني، وبالمجلس الوطني حال إعادة تشكيله وفق أسسٍ وطنية جديدة، وأن تكون أبوابها مشرعة دون عقباتٍ أو اشتراطات لجميع المواطنين في داخل الوطن وخارجه، من المتضررين شخصياً أو ورثتهم، أو غيرهم ممن يرى ضرورة تقديم شكوى تظلم لصالح أحد الفلسطينيين، أو شكوى ضد أحد الأشخاص العموميين أو ضد جهاتٍ رسمية معينة، وأن يكون في قدرة الهيئة تحريك أي قضية من طرفها مباشرة، ودون الحاجة إلى قيام أحد أطرافها بطلب فتح الملفات المتعلقة بها، كما يجب عليها أن تكون قادرة على تقديم الطعون القضائية ضد أي حكمٍ قضائي ترى أنه جائر، ومخالفٌ للأصول القانونية، أو أنه يفتقر في صدوره إلى إجراءات المحاكمة العادلة، وأن تكون متابعاتها القضائية والقانونية معفاة من أي رسومٍ أو تكاليفٍ مالية، في الوقت الذي يعفى فيه المستدعون من دفع أي رسوم مالية لتحريك قضاياهم.
وينبغي أن يتمتع أعضاء الهيئة بالحصانة التامة أمام مختلف الجهات التنفيذية، وأن تتشكل آلية دقيقة لانتقائهم وتعينهم، بما لا يسمح للجهات التنفيذية بالتدخل في شؤونهم، والتأثير عليهم، أو الاعتراض على بعضهم، وأن تكون الهيئة قادرة على مساءلة أي شخصية عامة، سواء كانت على رأس عملها أو انتهت منه لتقاعدٍ أو استقالةٍ أو إقالة، على أن تكون ملزمة بتقديم إجاباتٍ وتوضيحات وتفسيراتٍ لكل الأسئلة التي تطرح عليهم، وألا تقبل الهيئة بتبريرات الضرورات الأمنية وأسرار الوطن والمصالح القومية العليا للبلاد، وأن تكون الهيئة على اتصالٍ دائم بوزارتي العدل والداخلية، بما يمكنها من حرية الإطلاع على جميع الملفات القضائية، والحالات المعروضة على القضاء قبل صدور الأحكام عليها أو بعدها، والتأكد من سلامة إجراءات المحاكمات، وأن يكون من حقها زيارة المعتقلين والاستماع إليهم، والتعرف على ظروف اعتقالهم وكيفية التعامل معهم، وأن تكون قادرة على الزيارات الفجائية والمنظمة إلى كل مراكز الاعتقال والاحتجاز السرية والعلنية التابعة لوزارة الداخلية والأجهزة الأمنية الفلسطينية، وأن تطلع على وسائل التحقيق والمساءلة، وأن تزور الموقوفين وتراقب أماكن احتجازهم وظروف عيشهم، وتستمع إلى شكواهم وتتعرف على حالتهم الصحية.
لا يقتصر عمل هيئة المصالحة الفلسطينية على القضايا الراهنة والملفات المفتوحة، وإن كانت آنيتها تفرض الأولوية وتمنحها صفة الاستعجال والضرورة، إلا أن الهيئة يجب أن تولي اهتماماً كبيراً بالملفات السابقة، والمخالفات القديمة، والتجاوزات التي وقعت في السنوات الماضية، لأنها هي التي تسببت في تمزيق لحمة الشعب الفلسطيني، وأدت إلى تعميق الشرخ الاجتماعي الذي شاركت في تأزمه الأجهزة الأمنية الرسمية وممارسات الثورية النضالية، في ظل غياب الرقابة والمتابعة وسلطة القوانين الإنسانية العادلة، إذ أن متابعة الملفات القديمة تحقق العدالة، وتنزع أساب الغل والحقد والكره والتباغض في المجتمع، وتخلق كياناً متماسكاً متحاباً خالياً من عوامل الفرقة والانقسام، في الوقت الذي تساهم فيه محاسبة المسؤولين السابقين على جرائمهم ومخالفاتهم في خلق مجتمع القانون والعدالة، الذي يعني أنه لا يوجد أحدٌ فوق القانون، كما لا يوجد شخصٌ لا تطاله المساءلة والتحقيق، وأنه لا يوجد أحد يستطيع الإفلات من العقاب، والتخلص من تبعة مسؤوليته عن الجرائم التي ارتكبها، إذ لم يعد هناك مكان للظلم، ولا مكانٌ للتفرد في وضع القوانين الاستنسابية التي خلقت السجون والتعذيب والعزل والنفي والتصفية والقتل، فقضايا الشعوب لا تموت، والملفات لا تغلق، والحق لا ينسى، والظلم لا يسود، والعدل باقٍ لم يرفع، فهو قانون السماء الأبدي السرمدي الخالد.
أما توصيات هيئة المصالحة الفلسطينية فينبغي أن تحولها الهيئات التشريعية الفلسطينية إلى قوانين وقرارات، وأن تمنحها صفة القانون، وأن تدرج بعضها ضمن دستور البلاد وأنظمة القضاء، ولوائح العمل الضابطة في الوزارات المختلفة خاصةً وزارتي العدل والداخلية، بما يضمن كرامة المواطنين، ويحفظ حقوقهم وامتيازاتهم، من أجل ضمان عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الفلسطيني، ولتحقيق منهج الإصلاح القضائي والأمني والارتقاء فيه، وأن تكون لجان الهيئة المنتشرة في كل أرجاء الوطن، قادرة على تلمس حاجات المواطنين ورغباتهم، لترفعها إلى الجهات التشريعية لتضمنها الدستور، وتدرجها ضمن القوانين والتشريعات، لتبقى دائماً في خدمة المواطنين، وقادرة على حراسة حاضرهم وضمان العدالة لماضيهم.
نحن الفلسطينيين في أمس الحاجة إلى هذه الهيئة العدلية المستقلة، القادرة على مساءلة المسؤولين ومحاسبة المتهمين في مختلف السلطات الرسمية والنضالية، فقد ضحى الشعب الفلسطيني كثيراً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وقدم على مدى سنواتٍ طويلة من عمر الاحتلال زهرة شبابه وربيع عمره من أجل حرية وكرامة هذا الوطن، وحريٌ به ألا تظلمه مؤسساته، وألا تتغول عليه قياداته، وألا تمارس أجهزة بلاده ضده ما مارسه الاحتلال الإسرائيلي ضدهم من اضطهادٍ وتعذيبٍ وحرمانٍ وتضييقٍ، واعتقالٍ ونفيٍ وإقصاء وتغريبٍ، وليس ما يحمي شعبنا من ظلم مؤسساته وتغول قياداته سوى رجال قوامهم العدل والمسؤولية الوطنية، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا توقفهم عن خطواتهم سلطاتُ أمنٍ ونفوذُ حاكمٍ، وهالةُ قائدٍ، وقداسةُ مسؤولٍ.
0 comments:
إرسال تعليق