يقدم الشعب المغربي بصدقٍ وإخلاصٍ ومحبةٍ وحرصٍ أخويٍ كريم، إلى الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات النصح والتوجيه والإرشاد، من منطلق حبهم في رؤية الشعب الفلسطيني متفقاً موحداً، خالياً من الخلافات والصراعات والتناقضات، متعالياً على الجراحات والأحزان والآلام التي سببتها السنوات الماضية، فيتخلص مما راكمته بعض الأخطاء والتجاوزات خلال سني نضالهم المجيدة، ويدعوهم للاستفادة من التجربة المغربية الرائدة، التي نجحت في تأسيس هيئةٍ وطنية مستقلة للحقيقة والإنصاف والمصالحة، للبحث عن أفضل السبل وأكثرها وطنية لتسوية ملفات ونزاعات الماضي، وحلها بشكلٍ منصفٍ وعادل، لخلق مجتمعٍ فلسطينيٍ منسجمٍ ومتآلف، يخلو من معاني الكراهية والظلم، فكانت هيئة المصالحة والإنصاف المغربية آلية حقيقية لتحقيق العدالة الوطنية، ونزع الحقد والغل والغضب من نفوس آلاف المغاربة، الذين تركت فيهم سنوات ما بعد الاستقلال جروحاً بالغة، وتسببت لهم في مآسي كبيرة، تركت آثارها على الأشخاص والمؤسسات، وورث نتائجها الأبناءُ والأسرُ والعائلات، وشكلت مرحلة مريرة وقاسية من عمر الشعب المغربي، سجلت فيها انتهاكاتٌ جسيمة وخطيرة لحقوق الإنسان إلا أن الهيئة مكنتهم عبر جهودٍ كبيرة من المتابعة والتحقيق والتحري من الوصول إلى الحقيقة في أغلب القضايا التي لم يطوها الزمن، ولم تتمكن الأيام من نسيانها، وأعادت لكثيرٍ من المتضررين حقوقهم المادية والمعنوية، وعوضتهم عن كثيرٍ مما فاتهم.
يرى المغاربة أصحاب الخبرة والتجربة، ممن خاضوا تجربة نزع فتائل الانفجار وعوامل التجزئة والانقسام، ووضعوا حداً برضا ومحبةٍ وتفاهم لكثيرٍ من المشاكل وموروثات الماضي، أن الشعب الفلسطيني وهو في طريقه إلى الوحدة والاتفاق والمصالحة، ليتمكن من تحصين مصالحته الوطنية بنجاح، وتثبيتها ومنعها من السقوط والانحدار من جديد، فإنه في حاجةٍ ماسة لخلق هيئة إنصافٍ ومصالحة وطنية، تقوم على أسسٍ وطنية سليمة، تعتمد المهنية في عملها، وتتوخى الحقيقة في تحقيقاتها، وتكون جريئة في فتح كل الملفات، وتعقب كل الجرائم، ومتابعة كل الجهات المتورطة في انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني، وأن تكون مستقلة عن كل مراكز القوى، وغير خاضعةٍ إلى حساباتٍ خاصة، ولا مرتبطة بأجنداتٍ حزبية وفصائلية، وأن تمتلك الإرادة السياسية للقيام بأعمال الإصلاح وعدم التوقف أمام العقبات والصعاب التي تعترضها.
الشعب الفلسطيني يعيش منذ سنواتٍ مرحلة انتقالٍ سياسي فارقة، تختلف في كثيرٍ من جوانبها عن مرحلة الاحتلال الإسرائيلي المباشر، ولكنها تمتد لتشمل سنوات النضال الوطني الفلسطيني، التي بدت في بعض مراحلها منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 وحتى اليوم بعض الخروقات اللافتة لحقوق الإنسان الفلسطيني، والتي تمثلت في قتل العشرات من الفلسطينيين بتهمة العمالة والتعاون مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ونفذت فيهم أحكام القتل دون إجراء محاكماتٍ عادلة لهم، كما لم تمكن كثيرٍ منهم من حق الدفاع عن أنفسهم، وتفنيد الاتهامات الموجهة ضدهم، فضلاً عن أعمال القمع والضرب الموجع التي تعرض لها آخرون بنفس التهمة، والتي تركت آثاراً اجتماعية سلبية وخطيرة على أسرهم وذويهم، وليس في هذا دفاعٌ عن المتورطين والمدانين أبداً، بل لعل القتل الذي طال المدانين والمتورطين منهم أقل بكثيرٍ مما يستحقونه من عقابٍ، بقدر ما هو مسعىً لإنهاء المشاكل الاجتماعية، وإغلاق ملفات بعض الأسر التي تطالب بحقها في الإنصاف ومعرفة الحقيقة، وجلاء الصورة، وتعويض المظلومين منهم، ورد الاعتبار إلى من وقع في حقهم أخطاءٌ وتجاوزات، خلقت لهم ولأسرهم مشاكل وتحدياتٍ اجتماعية خطيرة.
ويلزم هيئة الإنصاف والمصالحة الفلسطينية أن تنظر في مئات المظالم التي تعرض لها الفلسطينيون في السجون الفلسطينية، والانتهاكات الجسيمة التي اقترفتها الأجهزة الأمنية بحقهم، وأشكال التعذيب المهولة التي مورست ضدهم، فضلاً عن وفاة بعض المعتقلين في السجون الفلسطينية جراء التعذيب وسوء المعاملة، وغيرها كثير من الإصابات والأمراض التي لحقت ببعضهم، والتي سببت لهم إعاقاتٍ دائمة وعاهاتٍ مستديمة، على أن يتم تحديد الجهات السياسية والأمنية التي قامت بالفعل أو شرعت له، أو شكلت للقائمين عليه حماية وحصانة من الملاحقة والمساءلة، وهي قضايا كثيرة دائمة ومتجددة، وتهدد نسيج المجتمع الفلسطيني كله، وتحكم بالفشل على كل جهود المصالحة والاتفاق، ويجب عليها أن تنظر في آلاف حالات الطرد من الوظائف، والحرمان من العمل، وحجب الرواتب والحقوق بناءاً على خلفياتٍ حزبية وفصائلية وخلافاتٍ شخصية، وعلى قاعدة الانتماء السياسي والعمل الحزبي، التي فرضت في المجتمع الفلسطيني ما عرف باسم "السلامة الأمنية"، التي تسببت في تسريح آلاف الموظفين من وظائفهم، وحرمتهم من حقهم في العمل والكسب ضمن مؤسسات الوطن، وعليها أن تنظر في أسباب خوف بعض المواطنين الفلسطينيين من العودة إلى بيوتهم وبلداتهم، وتوفير الأجواء النفسية والقانونية الملائمة لضمان عودتهم إلى بيوتهم وأسرهم، وضمان حقوقهم المالية والمعنوية، وعدم التغول عليها بالقوة بعيداً عن القانون والمحاكمات العادلة.
لا تقتصر مهام هيئة الإنصاف والمصالحة الوطنية الفلسطينية على النظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الفلسطيني في السنوات الماضية، وتعويض المتضررين مادياً من الظلم والتعسف الذي لحق بهم، وجبر الأضرار وتعويض الضحايا، وتمكينهم من الانخراط في المجتمع، وتسوية مشاكلهم التي خلقتها الممارسات المنافية لحقوق الإنسان التي تعرضوا لها، وإنما على الهيئة أن تقوم بقطع المرحلة الماضية، ووضع حدٍ فاصلٍ لها، وعزلها كلياً عن التأثير على مستقبل الحياة الفلسطينية، وأن تعمل على ضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات، وعدم الوقوع في أسبابها من جديد، وأن تؤسس لسيادة القانون العادل والمنصف، الذي يراعي حقوق الإنسان، ويجرم أي انتهاك له، ويعطي الحق للمواطن في ملاحقة ومتابعة ومحاسبة كل من أجرم بحقه، وانتهك حقوقه، وأن تعمل على بناء مؤسسات الدولة والقانون التي لا تسمح بالتجاوز، ولا تشرع الأخطاء، ولا تحمي المجرمين، ولا تزيد في جرح المظلومين.
الفلسطينيون في أمس الحاجة إلى العدالة والإنصاف، وإلى بيان الحقائق وجلاء الصور، وإعادة الحقوق واستيفاء الأمانات، وإبراء النفوس وشفاء الجراح، فما زالت آثار الاعتداءات الإسرائيلية الصارخة بحقهم ماثلة ومستمرة، وهم لم ينسوا جرائمه، ولم يتمكنوا من وضع حدٍ لها، وهم منه لا يتوقعون شيئاً غير الظلم والبغي والاعتداء، لهذا فإنهم يتوقون إلى العدالة الوطنية، وإلى الصدق الوطني الذي يعوضهم خيراً عما أصابهم، ويمكنهم من جبر كسر السنين الماضية، وتعويض المتضررين جميعاً بما يخلق مجتمعاً فلسطينياً متحاباً متراصاً متوافقاً، وإلا فإن أسباب الخصومة ستبقى، وعوامل التفجير ستتعزز، ولن ينعم الفلسطينيون بحياةٍ آمنة مطمئنة، وستبقى حياتهم رهينة مظالم الماضي وتجاوزات اليوم.
0 comments:
إرسال تعليق