بعد المقابلة التلفزيونية التي أجراها الزميل تركي الدخيل مع كاتب هذه السطور مؤخرا في برنامجه المميز "إضاءات" وردني كم من الرسائل الإلكترونية و"المسجات" والمكالمات الهاتفية التي إنتقدت ما قلته حول موضوع "أمن الخليج". حيث أخذ عليّ أصحاب هذه الإتصالات ما وصفوه بـ "دعوتي إلى عودة الحماية الأجنبية" كحل لمعضلة الأمن في بحيرة الخليج وإمتداداتها.
ومع تقديري ومحبتي لجميع مع تابع اللقاء، أقول أن الأمر إختلط عليهم. فأنا آخر من يدعو إلى مثل هذا الحل، الذي يرجعنا إلى الوراء عشرات السنين، بل الذي فيه خيانة لذكرى الكثيرين من أبناء الخليج ممن دفعوا حياتهم ثمنا لإستقلال بلدانهم وتحريرها من قيود الحماية الإستعمارية. غير أن الخطأ في فهم ما قلته ناجم أساسا من عدم إتاحة الفرصة الكافية لي لتوضيح وجهة نظري كما ينبغي. وهذا ليس بمستغرب في برنامج تلفزيوني يحاول تغطية محاور كثيرة في فترة زمنية محدودة جدا.
لا شك إن أمن الخليج قضية محورية لطالما طـُرحت في المنتديات والمؤتمرات الحوارية، ولطالما شغلت الباحثين والدارسين على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، بل وإستأثرت أيضا بإهتمام كبار صناع القرار في العالم، إنطلاقا مما يمثله الخليج من أهمية جيوسياسية وإقتصادية، وذلك منذ أن وجدت منطقة الخليج نفسها دون سند خارجي، في أعقاب إنتهاء معاهدات الحماية البريطانية بإعلان رئيس الحكومة البريطانية الأسبق "هارولد ويلسون" في عام 1967 أن بلاده بصدد الإنسحاب من شرق السويس في موعد أقصاه سنة 1971 .
وبطبيعة الحال زادت وتيرة تناول هذه القضية على خلفية الأحداث المتسارعة التي شهدتها المنطقة مثل الحرب العراقية – الإيرانية، وحرب تحرير الكويت، وحرب تخليص العراق من نظامه السابق، ناهيك عما حدث قبل ذلك من أحداث دراماتيكية ذات إنعكاسات سلبية على أمن الخليج ودوله العربية وشعوبها مثل قيام الثورة الإسلامية الراديكالية في إيران في عام 1979 ، والغزو السوفيتي لأفغانستان في العام نفسه، علما بأن هذا الحدث الأخير دق أجراس الإنذار وضاعف من الشكوك والهواجس لدى صناع القرار الخليجيين والدوليين حول قرب وصول "الدب الروسي" إلى مياه الخليج الدافئة، خصوصا وأن هذا الدب كان وقتذاك قد نجح في بناء نفوذ وقواعد عسكرية له في دول كثيرة من تلك المحيطة بشبه الجزيرة العربية والخليج العربي مثل أثيوبيا والصومال وما كان يـُعرف بـ "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، ناهيك عن نجاحه في توقيع معاهدات إستراتيجية تربطه ببلدان أخرى مثل العراق والهند.
والحقيقة أن إحتلال العراق للكويت في 1990، وما أعقبه من حرب شارك فيها أكثر من 34 دولة بقيادة الولايات المتحدة في 1991 برهنت بالدليل القاطع على أنه ليس في مقدور دول الخليج العربية أن تحافظ على أمنها وإستقرارها دون عون عسكري من الخارج، وذلك لأسباب ديموغرافية ولوجستية وتقنية وفنية. إذ يخطيء من يظن أن قوات النظام العراقي السابق كانت ستخرج من الكويت بجهود عسكرية خليجية مشتركة أو بقرارات عربية عبر تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك أو عبر عقد تحالفات خليجية – عربية على غرار "إعلان دمشق" الذي مات قبل أن يجف حبره.
ومن هنا رأى البعض وقتذاك مثل الخبير الإستراتيجي الكويتي الدكتور "سامي الفرج" أن أفضل صيغة توفر لمنطقة الخليج أمنا وإستقرارا طويلين هو إستيراد مظلة أمنية نووية من الخارج يكون هدفها حماية سماواتنا وبحارنا وأراضينا ضد كل من يحاول العبث بها أو الإقتراب منها، حتى لو إستدعى الأمر إستيراد مثل تلك المظلة من "الشيطان"، على إعتبار أن الأمن مسألة لا تعلو عليها أية مسألة أخرى.
وأتذكر أن الكثيرين من أصحاب التوجهات القومية في داخل الخليج وخارجه إنتقدوا الدكتور الفرج على رؤيته تلك، قائلين أن المقصود بـ"الشيطان" ليس سوى إسرائيل. غير أن الهجوم على الرجل خفت حدته شيئا فشيئا حتى نسي الناس ما قاله، معتبرين أن فكرته لم تكن سوى نتاج العواطف المحتقنة في تلك الحقبة السوداء من تاريخ الخليج المعاصر.
إن ما ذكرته في اللقاء التلفزيوني حول ضرورة شراء المنظومة الخليجية للأمن من الخارج، مثلما نشتري أية سلعة أو خدمة أخرى، كان في هذا السياق لا أكثر، خصوصا وأنه لم يعد عيبا اليوم شراء الأمن من الخارج. فهاهي دول أكثر قوة من دول الخليج إقتصاديا وسياسيا وعسكريا وعلميا، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، تعتمد في أمنها على القوى الأجنبية، موجهة طاقاتها الأخرى نحو البناء والتنمية والتصنيع.
أما الذين إعتقدوا أنني طالبت بإستيراد الأمن من الغرب فقد جانبهم الصواب أيضا. فتجاربنا في هذا المجال مع الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة، غير مشجعة، خصوصا وأنها اليوم تزكي قوى التخريب والتأزيم والتوتير في المنطقة، وتتخلى على حلفائها القدامى تارة بحجة دفاعها عن حقوق الإنسان وتارة أخرى بحجة نشر الديمقراطية، وكأنها غافلة عن أن نتائج هذه المواقف تصب في النهاية لصالح أكثر الأنظمة ديكتاتورية وإنتهاكا لحقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط.
اليوم وبعد المتغيرات والتطورات العالمية الكثيرة منذ إنهيار الإتحاد السوفيتي، وإنتهاء الحرب الباردة، وبروز قوى غير غربية على الساحة الدولية بإمكانيات عسكرية وأمنية وإقتصادية وعلمية مبهرة، يمكننا القول أنه بإمكان منظومة دول الخليج العربية إستيراد الأمن من قوى صاعدة مثل الهند والصين، أو على الأقل جعل هاتين القوتين شركاء في حفظ الأمن الإقليمي وتحصينه. ومثل هذا الكلام قاله وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في منتدى حوار الأمن الخليجي الأول في المنامة في ديسمبر 2004. فلأول مرة عبـّر مسئول سعودي رفيع عن رؤية لم تكن مطروحة من قبل، ونعني بها قوله أن "البعد الدولي للإطار الأمني المقترح يقتضي المشاركة الإيجابية للقوى السياسية التي برزت على المسرح الدولي حديثا، وخصوصا الصين والهند" مضيفا أن "أمن الخليج يحتاج إلى ضمانات دولية لا يمكن توافرها على أساس منفرد حتى لو جاءت من طرف القوة العظمى الوحيدة في العالم".
وهذه الرؤية المستجدة، بطبيعة الحال، لا تنسجم مع الرؤية السابقة التي تلاقت زمنا مع الرؤية الإيرانية القائلة بأن "أمن الخليج يجب أن يكون من مسئولية دوله فقط".
إن الهند تمتلك اليوم من الإمكانيات العسكرية والعلمية والتكنولوجية، وخصوصا في سلاحها البحري المتعاظم، ما يجعلها مؤهلة أكثر من أي زمن سابق لجهة المساهمة في حفظ أمن منطقة الخليج، لاسيما وأن أمن الخليج كان منذ إستقلال الهند يحتل موقع الصدارة في السياسات الخارجية الهندية لإعتبارات تتعلق بضمان أمن صادراتها المارة في بحر العرب إلى الخارج، وضمان أمن وارداتها النفطية من الخليج. وهو لا يزال يحتل نفس الموقع (إن لم يكن أكثر)، وبالتالي فجدير بدول مجلس التعاون الخليجي أن تستثمر هذا الإهتمام الهندي في خططها وبرامجها الأمنية، خصوصا وأنه ليس للهند ماض إستعماري، وليس بينها وبين أية دولة خليجية نزاعات على المياه أو الأراضي، ناهيك عن أن من مصلحة الهند ان تبقى منطقة الخليج – التي تستورد منها 70% من حاجتها من الطاقة، ويعيش بها أكثر من خمسة ملايين وافد هندي، ويأتي منها بلايين الدولارات سنويا في صورة تحويلات مالية بالعملة الصعبة، وتصدر إليها صادرات متعاظمة من المنتوجات المختلفة – منطقة آمنة ومستقرة ومزدهرة.
لقد تبدل الزمن، وما كان يثير هواجس وشكوك بعض صناع القرار الخليجي إزاء الهند على خلفية علاقاتها القوية مع مصر الناصرية، أو روابطها الإستراتيجية مع السوفييت، راح إلى غير رجعة. كما و أن إنخراط بعض دول الخليج العربية كعمان والإمارات والسعودية في تعاون عسكري وأمني ومناورات بحرية مشتركة مع الهند لهو أكبر دليل على بدء حقبة جديدة من العلاقات الإستراتيجية المثمرة بين الجانبين، وهو من جهة أخرى يؤكد أن باكستان، الغارقة في أزماتها الداخلية، لم تعد ذات تأثير على صورة العلاقات الخليجية – الهندية كما كان الحال زمن الحرب الباردة.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة : يوليو 2011
الإيميل:elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق