حقيقة الموقف الروسي من الأزمة السورية/ محمد فاروق الإمام

لقد خُدع الكثيرون بموقف روسيا من الثورة السورية والنظام الديكتاتوري الذي يحكم سورية، عندما أشهر الفيتو في وجه قرار أممي يدين قمع النظام السوري لشعبه الذي تظاهر سلمياً طلباً للحرية والكرامة والديمقراطية لمرتين متتاليتين متحدياً الإجماع الدولي، بحجة أنه يريد الدفاع عن القانون الدولي ويرفض التدخل الخارجي في إزاحة الأنظمة وتغييرها بعيداً عن مصالح ورغبات شعوب هذه الدول، مغمضاً عينيه عما يجري في سورية من انتفاضة شعبية عارمة عمت البلاد من أقصاها إلى أقصاها، تطالب صراحة بسقوط النظام ورحيله، جابهها النظام بقمع وحشي وبربري ما سبقه أي نظام ديكتاتوري لفعل ذلك بشعبه عندما انتفض أو ثار عليه طلباً للحرية، فقد غيرت ثورات ربيع أوروبا الشرقية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي هذه الأنظمة الديكتاتورية التي حكمتها لسنين طويلة دون ارتكاب مجازر أو مذابح أو عمليات قتل ممنهج كما يفعل النظام السوري بشعبه، وحتى عندما ثارت بعض الشعوب العربية على حكامها المستبدين نجد أن هؤلاء الحكام ارتضوا بالرحيل الطوعي أو التنازل عن الحكم، كما حدث في تونس ومصر واليمن، باستثناء ليبيا التي حكمها ديكتاتور أرعن مجنون هب العالم سريعاً لحماية الشعب الليبي من جبروته ووحشيته.
أقول لقد خُدع الكثيرون بمرامي وأهداف موسكو عندما استعملت حق النقض الفيتو لإفشال قرارين يدينان النظام السوري ويضعان حداً لنزيف الدم الذي لم يعد يحتمل، وقد تجاوز عدد الشهداء العشرة آلاف وأضعافهم من الجرحى والمفقودين والمهجرين والنازحين، وارتفاع معدلات القتل اليومي إلى أرقام مهولة، وبأساليب وحشية يعاف فعلها الذئاب والضباع. فهذا "لافروف" يعلن عن الأسباب التي دفعت موسكو لاستخدام الفيتو في مجلس الأمن، وجعلتها تقدم للنظام ترسانة من الأسلحة الفتاكة والحديثة والمتطورة، وقد امتنعت لعقود طويلة من تقديمها خشية استعمالها في مواجهة إسرائيل وتحرير الجولان المحتل، إلى أن جاء الضوء الأخضر من تل أبيب أن لا تخشوا من فعل النظام أي شيء يعكر أمن وسلامة الحدود الشمالية لدولة إسرائيل، وإننا راغبون في بقاء النظام فهو الوحيد الذي يمكن أن يحمي حدودنا الشمالية، وذكّرت تل أبيب موسكو بما جرى في لقاء جمع جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل وموشي ديان وزير دفاعها وحافظ الأسد الذي كان وزيراً للدفاع في نيقوسيا بقبرص عام 1968، وقد قدم موشي ديان حافظ الأسد للسيدة جولدا مائير وهو يربت على ظهره قائلاً: "هذا البطل هو من سيحمي حدود إسرائيل الشمالية".
وفي هذا السياق فإننا نذكر بأن اللوبي الصهيوني القوي الذي يحظى بتأييد عدد كبير من أعضاء الدوما الروسي هو ليس أقل قوة في توجيه السياسة الروسية من صنوه اللوبي الصهيوني في أمريكا الذي يتحكم في سياسة الكونجرس الأمريكي ويجعله ينحاز إلى تأييد إسرائيل تأييداً مطلقاً.
نعود إلى لافروف لنتعرف إلى الأسباب التي دعت موسكو للوقوف إلى جانب النظام السوري الديكتاتوري الذي يقتل شعبه منذ أكثر من اثني عشر شهراً.
قال (لافروف) في حديث مباشر في مقابلة مع محطة روسيا اليوم: "إنّ الموقف الدولي حول ما يجري في سورية موحد", وقال محذرا: "إنه إذا سقط نظام الأسد، فستنبثق رغبة قوية وتمارس ضغوط هائلة من جانب بعض بلدان المنطقة، من أجل إقامة نظام حكم سنيّ في سورية، ولا تراودني أيّ شكوك بهذا الصدد"!!
لقد وضع لافروف النقاط على الحروف وأسفر عن وجهه القبيح تصريحاً لا تلميحاً بأن خوف موسكو من أن أهل السنة هم من سيحكمون فيما إذا سقط نظام عائلة آل الأسد، وبالتالي فإن لدى موسكو خشية من أن تتشجع الشعوب المسلمة في عقر دارها وتثور على نظامها الذي لا يقل عن نظام آل الأسد وحشية في التعامل معها، وقد شهدنا ما ارتكبه الروس من مذابح ومجازر بحق أهل الشيشان عندما ثاروا ينشدون الاستقلال عن موسكو أسوة بباقي دول الاتحاد السوفييتي التي اختارت الاستقلال عن موسكو بعد تفكك هذا الاتحاد.
وهنا نتساءل: هل ما يحق للروس وهم الأكثرية من أن يكونوا حكام بلادهم أمر عادي، وفي المقابل يعارضون أن يحكم السنة سورية وهم يشكلون 80% من سكانها، وعليهم البقاء رهناء لعصابة تحكمهم لا تمثل في فسيفساء النسيج السوري إلا قلة من المؤيدين المنتفعين، وهم لا يشكلون في أكثر الأحوال إلا أقل من 5% بعد أن تخلى عن هذا النظام أكثرية الطائفة العلوية الكريمة التي ينتمي إليها رأس هذا النظام والأربعين حرامي الذين معه، وقد استغلهم لعقود طويلة وجيرهم لخدمته وخدمة أغراضه، ولم يحصد هؤلاء منه إلا الفقر والحرمان والتهميش والتجهيل، ما خلى بعض من انتفع من هذا النظام من أصحاب النفوس الضعيفة أو الجاهلة أو الحاقدة أو ممن لا ينتمون إلى تراب الوطن، أمثال مندوب النظام في الأمم المتحدة بشار الجعفري، وانساقوا خلف هذا النظام وخدموه وأعانوه على ظلمه وسفكه لدماء السوريين.
أخيراً أقول للافروف إن الشعب السوري الثائر هو من يقرر من يحكمه بعد أن تتحقق له قيام الدولة المدنية التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الطائفة أو الانتماء، وقد خاض في الماضي، عقب الاستقلال عن فرنسا، تجربة ديمقراطية قل نظيرها حتى في بلاد مهد الديمقراطيات، وقد تعايش الجميع تحت ظل علم الاستقلال في انسجام وتوافق وتحابب وتوادد وتعاون، حتى غدت سورية تقترب كثيراً من الدول المتقدمة والمتحضرة، وتتفوق على بعضها في كثير من مناحي الحياة العلمية والصناعية والزراعية والتجارية، إلى أن أصيبت بفيروس العسكر الذين انقضوا على الحكم انقلاباً بعد انقلاب إلى أن وصل الأمر إلى آل الأسد الذين حولوا سورية إلى مزرعة وشعبها إلى خدم، إلى أن قيض الله لها جيل من الشباب الرافض للذل والخنوع والعبودية فثاروا لانتزاع الحرية والفوز بالكرامة وتجسيد حلمهم إلى حقيقة في إقامة دولتهم المدنية ونظام حكم ديمقراطي تحكمه صناديق الاقتراع ويتداول فيه الناس الحكم بشفافية بعيداً عن الاستئثار والإقصاء، يكون فيها الناس سواسية تحكمهم مؤسسات وقوانين يتوافقون عليها، بعيداً عن الأكثرية أو الأقلية أو العرقية أو الدينية أو المذهبية أو الطائفية، وأن دفاع موسكو عن هذا النظام لن يجدي فقد قال الشعب كلمته بإسقاط النظام ورحيل أهله، وأن على موسكو أن تصحح مسار سياستها التي تخالف بها كل نواميس الحياة، وتمد يدها إلى الشعب السوري وهو الذي كان على الدوام صديقاً وفياً للشعب الروسي، وأن على موسكو أن تقابل الوفاء بالوفاء وإلا فإنها لن تحصد إلا الشوك إذا ما بقيت على موقفها المؤيد للقتلة والمجرمين، وتفقد وإلى الأبد كل مصالحها في الشرق الأوسط وفي المنطقة العربية تحديداً.

CONVERSATION

0 comments: