تحولت مصر منذ العام ٠٧٩١ عام غياب عبد الناصر الى دولة تدور في الفلك الاميركي تحت حكم الرئيسين السادات ومبارك.
وعندما بدأت التحركات الشعبية ضد حكم مبارك قبل عام ونصف تقريبا، وقفت الاجهزة الاميركية وكل من ساندها عربياً وعالمياً الى جانب مبارك مطلقين ما تمكنوا من عمليات التشويش والتخويف للإساءة الى سمعة الانتفاضة وعناصرها.
وبعدما انهار حكم مبارك وأودع السجن مع اسرته وحاشيته، حوّلت واشنطن وجهة سيرها وأسرعت الى التقرب من القوى التي سيطرت على الارض بعد سقوط حليفها، الى جانب زيارات المسؤولين الاميركيين وتوددهم لمكونات العهد الجديد وخاصة المجلس العسكري الذي أجرى جميع أعضائه دورات تدريبية في الولايات المتحدة. وتوجه الموفدون الاميركيون الى معظم الوجوه والعناصر التي شاركت في الثورة ضد مبارك وتقربت منها وخاصة المجموعات الاسلامية المتطرفة والمعتدلة، وقد تجاوب الكثيرون مع التحركات الاميركية.
الى جانب مئات العملاء والمخبرين السرّيين التابعين لوكالة المخابرات المركزية، ظهرت عناصر جديدة تعمل علناً تحت اسم منظمات المجتمع الاميركي ومهمتها العلنية دعم التوجه الديمقراطي والاتصال بمؤسسات مصرية لتشجيعها على إقامة حكم مدني ومراكز ثقافية حديثة.
وقد تكاثرت موجة منظمات المجتمع المدني الاميركي بسرعة لتتجاوز العشرين منظمة، وراحت توزع المساعدات بعشرات الملايين وتقوم بنشاطات هدفها اعادة السياسة المصرية باتجاه واشنطن والتطبيع مع اسرائيل. كما دعمت مطبوعات ومراكز إعلامية تدعو الى اعتبار مبارك الرئيس الشرعي لمصر ولا تجوز محاكمته ويجب إطلاق سراحه فوراً.
تنبهت الجهات الأمنية والقضائية المصرية الى نشاط المتسللين الاميركيين وأثار »سخاؤهم« الشبهات، الى ان أمرت النيابة العامة باعتقال ٩١ شخصاً من التبعية الاميركية، ووجهت المحكمة المختصة اليهم تهم الرشاوى والعمل على تقويض المجتمع المصري وتشويه العدالة ومنع الرأي العام من التعبير الحقيقي عن إرادته.
ان هذه التهم وفق القوانين المصرية تعتبر جرائم تتراوح احكامها من خمس الى عشرين سنة سجن. أدّى هذا الاجراء القانوني الى زلزال سياسي في واشنطن التي خافت من محاكمة مواطنيها التي قد تكشف الكثير من الأسرار الخطيرة المتعلقة بسياسة واشنطن الجديدة تجاه مصر.
امام هذا الواقع الذي اعتبرته واشنطن كارثة لم تكن تتوقعها، بدأت الوفود الاميركية عالية المستوى بالتدفق على القاهرة، وقد زار مصر وزر اء وقادة أركان ونواب واعضاء مجلسي النواب والشيوخ ونقلوا الى المجلس العسكري وحكومة الجنزوري تحذيرات مختلفة مثل قطع المساعدات المادية الاميركية التي تبلغ ملياراً ونصف الميار دولار الى جانب الضغط على المملكة السعودية لتتراجع عن وعدها بتقديم ٠٠٥ مليون دولار لدعم الاقتصاد المصري المتعثر.
وأشيع ان المجلس العسكري ووزير العدل تجاوبوا مع الرغبات الاميركية ونجحوا في المرحلة الاولى باصدار حكم قضائي يفرج عن المتهمين مقابل كفالة بلغت خمسة ملايين دولار (حوالي ٥٢ مليون جنيه) ومُنع المطلق سراحهم من مغادرة الأراضي المصرية قبل محاكمتهم.
ولكن الجهود الاميركية لم تتوقف عند هذا الحد، فقد توجّه وفد ضم خمسة من الاعضاء البارزين في مجلس الشيوخ الاميركي الى مصر حيث زار كبار المسؤولين كما التقى قيادات تنظيمات السلفيين والاخوان المسلمين وصعّد اللهجة من التحذير الى التهديد وتعالى الضغط على القضاة المعنيين الذين قدموا استقالاتهم رافضين الانصياع للضغوط السياسية.
دارت معركة صامتة بين المجلس العسكري والقوى السياسية الاخرى من جهة، والقضاء المصري المعروف باستقلاليته من جهة اخرى. وانتهت المعركة بتحويل التهم من جرائم الى جنح، والاتهام بالجنحة لا يمنع من السفر. وهكذا استغل المتهمون الاميركيون هذا الامر وغادروا الاراضي المصرية على أمل ان يعودوا لحضور محاكمتهم. ولكنهم ومن المؤكد لن يطأوا ارض مصر بعد اليوم.
وقد أعربت المصادر الاميركية وفي طليعتها وفد اعضاء مجلس الشيوخ عن شكرهم العميق للجهات المصرية التي شوّهت سمعة القضاء المصري واصفة قرارها بـ»الحكيم والديمقراطي السليم«.
كان القضاء المصري قبل اكثر من عشرسنوات أصدر حكماً بسجن المفكر المصري سعد الدين ابراهيم الذي تلقى مساعدات مشبوهة من جهات أميركية لدعم مركز دراسات ابن خلدون الذي كان يديره ويشرف عليه. وقد ثأر اليوم الابتزاز المصري من تلك الحادثة.
ان هذه الفضيحة تعتبر أسوأ نكسة لحركة ٥٢ يناير بجميع أطيافها لان الاصوات التي ارتفعت معارضة ما جرى كانت محدودة.
0 comments:
إرسال تعليق