أنا حر/ اسعد البصري

لن يكون بإمكانك الكتابة كما يكتب مهرج ، عليك أن تغسل وجهك في النهر الصافي من هذه الأصباغ . معدتك لن تهضم العشب مع الحملان بعد اليوم ، لقد ابتلعت العذاب بمفردك وكان هناك ما يكفي من الوقت لهضمه . إنك تحبل بنفسك وتوشك أن تنجبها . لا أحد تحت هذه الصخرة السوداء يسند رأسك لتشرب . إن التمثل الغذائي للعقل له رائحة . الكاتب الأسود يشم رائحة رأسه قبل أن يكتب .
لا أفتر وأسكن بدافع المزاج ، لكن صحتي الجسدية والنفسية تتدهور عندما أضع نفسي في خدمة صوت مدمّر يخرج من فمه الدم . لعلّي أفهم معنى الآية (( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل .... الخ) و معنى إشفاق الجبال من حمل الأمانة . الكلام في المصير العراقي مخرب للأعصاب والنوم والكيان . هذا النوع من الأصوات غالبا ما كان يحط على أجساد عراقية قوية . لقد قال كازانتزاكي مرة بأنه وترٌ يشده الله بحسبان . إن الشد بقوة نحو الله يمزق البشر الفاني حقاً . لا تُقرّب سمعك من فم الله كثيرا ، هذا الفضول سيفجّر رأسك بلا شك .
إن وجودنا على هذه الأرض هو وجود روحاني و شعري جميل ، غير أني لا أعتقد بخلود جميع النفوس ، ولا أعتقد بظهور السر والحق في كل إنسان . إن اختلاف الفلسفات والعقائد بالنسبة لي دليل على اختلاف البشر . إنهم ليسوا نوعا واحدا كما تظن ، وعلى كل إنسان ( حيّ ) أن يبحث عن نوعه ، فليس كل الناس أحياء بدليل عبادة بعض البشر للقبور . إنك موجود لتفكر و تكتب رأيك . أنت حر على هذه الأرض و أكبر من الزمان . لا تجامل ولا تنافق ولا تخش العواقب . هذه أوهام ، اكتب رأيك حتى لو أدى ذلك إلى حرب نووية .....الحرية أهم من هذا الكوكب السابح في حرية الله .

الشيء الوحيد الذي يمكن لآلهة الرحمة تنزيله على كائنٍ حيّ في المراحل التاريخية المتعفنة هو تشجيع الناس على الموت . إن إدراك الزوال وليس الزوال نفسه هو ما يفزع الإنسان . هناك تناقض كبير بين العلوم وبين النفس البشرية القديمة ، وما علينا نحن ميراث الحضارات الروحية إلا أن نختار العدمية بوسائل منافقة كثيرة . التشبث بالحياة غالبا ما يكون مرضا مزمنا . لا بأس بالزوال من هذا العالم والخلاص من الألم . لقد استطاع ماركس تخليص الإنسان من نفسه . كل هذه القوانين في العالم المتقدم المتعلقة بالضمان الإجتماعي والتأمين الصحي و مجانية التعليم و .... الخ . لكن هل يستحق الأمر كل هذا العناء ؟ . لا يستحق الأمر في النهاية سوى هذا النشيد العدمي في الريح .

لا أهتم لرأي الناس بل استطعت أخيرا الوقوف خلف الحب والكراهية ، خلف الخير والشر ، خلف الجدار الفاصل بين العبيد والأحرار . (( لا أطمع في شيء ... لا أخاف من شيء ...أنا حر )) هذا ما كتبه الأديب نيكوس كازانتزاكيس على قبره في جزيرة كريت . لقد أخذ ذلك من قصة هندية سحرته ، تقول الحكاية إن هندياً كان يقود قاربه مقاوما تيار النهر الجارف الذي يدفع بالقارب نحو شلال صخريّ ، بعد أن استنفذ كل طاقته في مقاومة التيار ترك مجذافيه و بدأ يغني بصوت عميق (( آه ... فلتكن هذه الأغنية حياتي ...أنا لا أطمع في شيء .... لا أخاف من شيء ... أنا حر )) . اللحظة التي يكف فيها الإنسان عن المقاومة والدفاع والرغبة والطموح هي بالضبط لحظة الحرية .
لقد قال ميشيل فوكو معرفا الإنسان بأنه (( مجموعة الأعضاء التي تكافح الموت )) في اللحظة التي تتعب فيها هذه الأعضاء يتدفق الموت .
لقد وجدت الحرية دائماً على الحدود والهاوية والخطر ، في اللحظة التي نشتبك فيها مع الموت . هذا الكلام يمكن أن يُساء فهمه بسهولة .
إنني جربت نفسي وأعرف بأنني طليق من هؤلاء المفرطين بطبيعتهم البشرية الضعيفة . الحرية ربما في أسوأ تجلياتها التاريخية تجعلك تفقد ثقة الجميع ، مع هذا تبقى هي وحدها أكبر من الجميع . إن الذي يتصرف بتهور هو مقامر بارع أو رجل واثق من قدراته . لأن الصوت القديم ملكي وحدي . الأصوات الخالدة التي نستدعيها حين نكون في محنة هي الإختبار الوحيد لهذا الإنتخاب والإصطفاء المرعب / اصطفاء الكتابة .
(( وإنما رجلُ الدّنيا و واحدها
مَنْ لا يُعوّلُ في الدنيا على رجُلِ
وحُسن ظنك بالأيام معجزَةٌ
فَظنَّ شراً وكن منها على وجَلِ
ماكنتُ أوثرُ أن يمتد بي زمني
حتى أرى دولة الأوغاد والسفلِ
تقدمتني أناسٌ كان شوطُهمُ
وراءَ خطويَ لو أمشي على مهلِ
أعللُ النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فُسحة الأمل ))
لا ميّة الطغرائي الأصفهاني

CONVERSATION

0 comments: