" الديمقراطية هي مرادفة للتنظيم الذاتي السياسي للمجتمع"[1]
لعل الهاجس الأكبر للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس هو اعادة بناء نسق الحقوق ومنظومة المواطنة المعاصرة بحيث يخلصها من القيمة الإستعمالية ويمنحها قيمة تداولية ويتجاوز الهوة التي تفصل الملكية الخاصة مع حرية المجتمعات ويتخطى التوتر القائم بين حقوق الانسان وسيادة الشعوب. وقد ترتب عن ذلك تدشين حقبة جديدة يلعب فيها الباراديغم الاجرائي[2] دور البطل في المشهد السياسي مع الحاجة للاستنجاد بإتيقا المناقشة والكليات التواصلية التي وقعها بنفسه في الفضاء العمومي والعقل التواصلي.
من المفروض اذن أن تحدد قيمة المواطنة الشروط الأنثربولوجية للحياة السياسية الديمقراطية وتضغط على توجه كل حياة مدنية ممكنة نحو العيش المترك واحترام التعددية وتؤسس بطريقة جذرية انتماء الفرد الى جماعة سياسية معينة وتضع الحق والأخلاق والسياسة في الواجهة التمهيدية لكل فضاء مجتمعي.
على هذا النحو خصص هابرماس قسما من فصل في كتابه "الإندماج الجمهوري"[3] للتساؤل عن ماهية السياسة التداولية[4] وأقر بوجود احالة الى تصورين للسياسة كلاهما يتأسس على أنماط مثالية، هما التصور الليبرالي والتصور الجمهوري، وأشار الى أن الجبهة التي يثار فوقها هذا النقاش هي جبهة الجماعاتيين. ويرجع الى فرانك ميشالمان[5] الذي وصف النموذجين وعارض بينهما بشكل سجالي واعتبرهما يختلفان حول تحديد المواطن ومفهوم الحق وحول الطريقة التي تصور بها المسار الذي تتكون عبره الارادة السياسية. لهذا السبب انفتح هابرماس على عالم العقلانية التواصلية وقام بنقد الحمولة الإتيقية للنموذج الجمهوري والنزعة الاقتصادوية للنموذج الليبرالي وطور تصورا ثالثا للسياسة يسميه سياسة تداولية وهو من طبيعة اجرائية تشاورية.
ان الذي يصنع الفارق بين النموذجين هو وظيفة المسار الديمقراطي. حيث أن دور المسار الديمقراطي في النموذج الليبرالي هو برمجة الدولة لكي تحقق مصلحة المجتمع ولذلك فإن الدولة الليبرالية تمثل هنا جهاز الادارة العمومية ويمثل المجتمع نظام العلاقات بين الشغل الاجتماعي والأشخاص المستقلين الذين يتم هيكلتهم بواسطة اقتصاد السوق. لذلك تعمل السياسة الجمهورية هنا على تشكيل الارادة العامة للمواطنين وترتكز وظيفتها على التجميع وتأكيد المصالح الخاصة بالمقارنة مع جهاز الدولة الذي تكون وظيفته الخصوصية هي الاستعمال الإداري للسلطة السياسية من أجل انجاز وبلورة الأهداف الجماعية. في المقابل وحسب التصور الجمهوري لا يمكن اختزال السياسة عند باب الوظيفة التوسطية التي قد تقوم بها الادارة بين القوى المتصارعة ، وإنما يتوجب علينا أن تبذل جهدا تكوينيا لمسار الاجتماعية في كليتها.
ان السياسة هي الشكل التفكيري للسياق الذي تندرج ضمنه الحياة الإتيقية. وهي كذلك الحاضنة التي يتكون داخلها أفراد المجموعات المتضامنة بصورة تلقائية مع حرصهم على المحافظة على استقلاليتهم المتكاملة بوصفهم مواطنين وعلى تنمية وتطوير بواسطة الارادة والضمير الشروط الموجودة للتعارف المتبادل من أجل تأسيس شركة ذوات حقوقية تتمتع بالحرية والمساواة. يترتب عن ذلك أن التنظيم المعماري الذي تقترحه السياسة الليبرالية للدولة والمجتمع يخضع الى تحولات هامة في الفلسفة المعاصرة وأن الأدوار الجديدة التي تنضاف الى الدولة الى جانب التنظيم التراتبي والسلطة السيادية هي التنظيم بالاعتماد على نموذج السوق بطريق غير مركزية والاهتمام بقيمة التضامن بوصفها مصدر الاندماج الاجتماعي زيادة على سلطة الادارة وتحقيق مصلحة كل فرد. هذا الحرص على بناء الارادة السياسية بطريقة أفقية يكون الهدف منه بلورة التلاقي وصناعة التوافق بواسطة التواصل وايجاد ديمقراطية أفقية تمتلك الأولوية على المجتمع من وجهة نظر تكوينية ومن وجهة نظر معيارية.
ان الواقع البديهي الذي يقره هابرماس بالنسبة الى ممارسة المواطنين للتحديد الذاتي هو الإقرار بوجود قاعدة اجتماعية مستقلة عن الادارة العمومية وعن التبادلات الاقتصادية الخاصة حيث لا يقدر جهاز الدولة على ابتلاعها ولا تتفق هي نفسها من حيث دورها مع بنية السوق. والحق أن النموذج الجمهوري يعطي مفاهيم الفضاء العمومي السياسي وبنيته التحتية والمجتمع المدني معان استراتيجية ويجعلهما يضمنان الالتقاء بين المواطنين ويقوي لديهم تجارب الاندماج والاستقلالية. هكذا تقوم السلطة التي تتأسس على التواصل بتفعيل دور الأفراد في بناء الفضاء المواطني وتحرص على تشكيل الرأي العام وتدفع الإرادة السياسية الى الارتباط العضوي بالسلطة الادارية وتتجاوز القطيعة القديمة بين التواصل السياسي والمجتمع الاقتصادي.
أ- مفهوم المواطن:
في البداية هناك اختلاف حول تحديد مفهوم المواطن بين الليبراليين والجمهوريين. اذ تتحدد منزلة المواطنين عند الفريق الأول بواسطة الحقوق الذاتية التي تعطى لهم من طرف الدولة ومن خلال احترامهم لحدود الملكية الخاصة التي يضبطها القانون مع التزام الدولة بحمايتهم وعدم تعدي على ممتلكاتهم الشرعية بطرق غير شرعية. عندئذ تكون الحقوق الذاتية هي حقوق سلبية حيث تمنح الدولة هامش من الاختيار داخلهم وحيث يكون الأفراد مستقلين على كل ضغط خارجي. والحقوق السياسية هنا تسمح للمواطنين بأن يؤكدوا ملكياتهم الخاصة وأن يكونوا ارادة سياسية وقوة ضغط تحافظ لهم على مصالحهم وأن يكون لهم من يمثلهم في الانتخابات وفي البرلمان وفي الادارة. ان الايمان بقيم المواطنة هو الحل الذي يجب تقديمه كبديل عن انغلاق العالم السياسي في الدولة الشمولية وان التوجه نحو الاندماج والسلم والتعايش والتسامح هي الطريق الشرعي نحو الديمقراطية.
أما في النموذج الجمهوري فنجد أن منزلة المواطنين لا تتحدد وفق الحريات السلبية وإنما من خلال الحقوق المدنية وخاصة حق المشاركة والتعبير والممارسة العمومية وتحمل المسؤولية في الجماعة السياسية. كما أن المسار السياسي لا يتوقف عند مراقبة المواطنين لنشاط الحكومة وذلك بممارسة حرياتهم والمحافظة على حقوقهم الخاصة وإنما يمتد نحو ايجاد أرضية ديمقراطية للتجاذب بين الدولة والمجتمع والنظر الى السلطة الحكومية على أنها قدرة أصلية تتأسس عن طريق التواصل بين المؤسسات وممارسة القدرة على التحديد الذاتي لدى المواطنين ومن خلال حماية الدولة لهذه الممارسة عن طريق مأسسة الحرية العامة. لذلك لا تستمد الدولة مشروعيتها من حماية الحقوق الذاتية ومن تمكين المواطن من الدفاع على مصلحته الخاصة وإنما من ضمان مسار تكوين الرأي والإرادة من طرف المواطنين الأحرار والمتساوين باعتبارهما المصلحة المشتركة بالنسبة الى الجميع. هكذا يكون المواطن في النموذج الجمهوري أكثر فاعلية في تحقيق المصالح المشتركة من المواطن في النموذج الليبرالي الذي يظل حريصا على المصالح الخاصة والفردية ومؤثرا حياة اقتصادية خالية من ضجيج السياسة.
غير أن العيب الذي يقع فيه النموذج الليبرالي هو اخضاعه دولة الحق الى معايير المجتمع الاقتصادي والحرص على اشباع حاجة المواطنين المنتجين في التمتع بالسعادة الخاصة.
ب- مفهوم الحق:
ان معنى النظام القانوني في النموذج الليبرالي هو الذي يسمح بتحديد ووضع الحقوق الممنوحة لبعض الأفراد وان النظام القانوني يبنى بالانطلاق من الحقوق الذاتية، بينما في النموذج الجمهوري تشتق الحقوق الذاتية من النظام القانوني الموضوعي الذي يضمن ويسمح بالاندماج في حياة مشتركة تتأسس على المساواة في الحقوق والاستقلالية والاحترام المتبادل وتعطى الأولوية لمضمون الحق الموضوعي. ان الحق في المشاركة والحق في التعبير السياسي يشكلان البنية التي يتكون منها المسار التشريعي وتغطي مجمل الحقوق الأخرى . كما أن الترخيص الذي يمنحه الحق الخاص من أجل متابعة الاهتمامات الخاصة بحرية واختيار يفرض علينا احترام الحدود الذي تضعها الفعالية الاستراتيجية وتحقيق مصلحة الجميع.
لا يملك التشكيل الديمقراطي للإرادة وظيفة أخرى غير اصباغ المشروعية على ممارسة السلطة السياسية للدولة ولذلك ترتبط مشروعية الدولة باحترام السيادة الشعبية ولذلك تعمد الحكومة الى تبرير استعمالها للسلطة وتدافع على برامجها أمام الجمهور وممثليه في البرلمان. على هذا النحو تمثل الانتخابات فعلا تأسيسيا للمجتمع من حيث هو جماعة سياسية منظمة بطريقة قانونية وتتصرف بشكل عقلاني وإجرائي.
ان مفهوم السيادة الشعبية قد انبثق على أنقاض السيادة الفردية المطلقة ونتج عنه تملك وإعادة تأهيل لدور المواطنين في تسيير المجتمع وحكم أنفسهم بأنفسهم واحترام دولة الحق والنظر الى الحكومة على أنها المخولة لاحتكار عنف الأفراد واستعماله بشكل مشروع وإعادة توزيعه بشكل متساو على قوى المجتمع.
هكذا يشكل الحق بعد اعادة تأويله على ضوء أخلاق المناقشة ضمان المشروعية التي تحتاجها الديمقراطية الناشئة ويرد بشكل حاسم على مسألة العقلانية العملية ويحمل المواطنين كامل مسؤولياتهم ويبحث عن تأسيس مواطنة ما بعد وطنية وذلك عن طريق التفكير في رباط قانوني مدني ما بعد وطني.
ج- طبيعة المسار السياسي:
ثمة عدم اتفاق جوهري حول طبيعة المسار السياسي وذلك بسبب تعدد التعريفات والوظائف بالنسبة الى المواطن والحق. ان السياسة في التصور الليبرالي تختزل أساسا في مواجهة تكون الغاية منها الاستيلاء على مواقع تسمح فيما بعد بالتصرف في السلطة الادارية. ان مسار صناعة الرأي العام والتعبير عن الارادة السياسية يتمان في الفضاء العمومي وبالتحديد في البرلمان ويكون عن طريق التنافس بين الفاعلين الجماعيين والذين ينخرطون في فعل استراتيجي يقصد الاستحواذ على مواقع السلطة. على هذا النحو تحقق المواجهة نجاحا معقولا حينما تنتج حالة من الرضا من طرف المواطنين على الأفراد والبرامج من خلال عدد الأصوات الممنوحة. هكذا يعبر الناخبون عن تفضيلاتهم عن طريق التصويت وتمتلك القرارات الانتخابية نفس البنية التي تحكم اختيارات الفاعلين في السوق حيث يتأسس الفعل من خلال البحث على النجاح. ان الطموح هنا هو بلوغ بعض مواقع السلطة تتصارع حولها الأحزاب السياسية ويتراكم الفعل ويعود بالفائدة على الفضاء العمومي ويكون المجتمع هو الرابح الأكبر. وبالتالي فإن مساهمة الأصوات وإنتاج السلطة يخضعان الى نفس الشكل الذي يرسمه الفعل الاستراتيجي.
في التصور الجمهوري على خلاف ذلك تماما اذ لا يخضع تشكيل الرأي العام والإرادة السياسية في الفضاء العمومي وفي البرلمان الى بنى السوق وقوانين العرض والطلب والإنتاج والتبادل والاستهلاك وإنما الى بنى مستقلة من التواصل الشعبي الموجه نحو التلاقي. ان النموذج في السياسة المعتمدة على ممارسة المواطنين لقدراتهم على التحديد الذاتي لا يتأسس على التبادل التجاري في السوق وإنما على المحادثة في التواصل اللغوي. من هذا المنطلق ثمة فرق بنيوي بين السلطة الادارية التي يفرضها جهاز الدولة والسلطة المستخرجة من التواصل السياسي من حيث هو الرأي الأغلبي الذي يتشكل عبر أداة التشاور والنقاش والتفاوض.
على هذا الأساس تتنافس الأحزاب السياسية من أجل بلوغ مواقع السلطة في الدول وتتوخى أسلوب المناقشات السياسية وتتحلى بجودة الروية والتعقل وحسن التدبير وتبحث عن امتلاك قوة الشرعنة[6]. كما تبحث هذه القوى عن الهيمنة السياسية من خلال الكفاءة في الحجاج والمقدرة على الإقناع أثناء جلسات النقاش العمومي الذي تنخرط فيه مع بقية الأحزاب الأخرى التي تتنافس معها على احتلال مواقع السلطة.
ان أساس السياسات ليس استعمال السلطة الادارية بشكل بيروقراطي من طرف القوة المهيمنة على مواقع السلطة في مفاصل الدولة وإنما تجعل من النقاش السياسي هو مصدر الهيمنة السياسية وقوة الضغط على التوجهات العامة للدولة وتتعامل مع التنافس بين القوى الفاعلة والأحزاب السياسية بوصفه أصل الشرعية التي تضع القوانين المتحكمة في المسار الديمقراطي والإطار العام الذي تتحرك ضمنه الخارطة السياسية.
لكن ماذا يترتب عن هذا الفرق الجوهري بين النموذج الليبرالي والنموذج الجمهوري للديمقراطية؟ وما طبيعة الصراع الدائر الآن في المشهد السياسي العالمي بين الليبراليين والجماعاتيين؟
والحق أن للنموذج الجمهوري محاسن خاصة حينما يقف وراء معنى ديمقراطي جذري للتنظيم الذاتي للمجتمع بواسطة المواطنين المتحدين من خلال التواصل وحين يرفض اختزال المقاصد المشتركة في رعاية المصالح الخاصة المتعارضة. لكن هذا النموذج الجمهوري يظل نموذجا مفرطا في مثاليته ومشترطا المساواة في الحقوق والتكافؤ في الفرص. كما أنه يحرص على جعل المسار الديمقراطي تابعا لفضائل المواطنين المتجهة نحو الخلاص الجمهور. ان الغلط هنا هو اختزال النقاشات السياسية في وصايا اتيقية خاصة وأن السياسة لا تتمثل في طرح مشاكل اتيقية حول الهوية الجماعية.
غير أن النقاش الدائر حول مسألة الهوية الوطنية يظل المشغل الأبرز للسياسيين نظرا لأن المشاركين في هذا النقاش يبحثون عن أسلوب يعبرون به عن انتمائهم لهذه الهوية وعن وعيهم بالتحديات التي تواجهها. لكن كيف تمثل السياسة التداولية تجميعا لمنافع السياسة الليبرالية والسياسة الجمهورية وبديلا عن مساوئهما في نفس الوقت؟ وأين يمكن أن نموضع هذا النموذج الجديد؟ هل ضمن خيارات اليمين الديني والاقتصادي أم ضمن حسابات اليسار الاجتماعي والعمالي المناهض للعولمة؟ ماذا لو يكون النموذج التداولي هو الخيار الثالث الذي تبحث عليه الشعوب الرافضة للبدائل المفلسة؟
د- مفهوم السياسة التداولية:
لا ينال النموذج التداولي أهمية في النقاش السياسي إلا اذا أخذنا بعين الاعتبار التعددية والتنوع وفسحنا المجال أمام مختلف أشكال التواصل بين المجموعات من أجل أن تتشكل إرادة جماعية ورأي عام مشترك. ولا يهتم هذا النموذج بالتعاطي الإتيقي مع موضوع الهوية الوطنية بل يبحث عن تحقيق المصالح والاتفاق على حلول وسطى عقلانية تتماشى من الخيارات العامة وتجسد التماسك القانوني والتسويغ الأخلاقي.
ان السياسة التداولية تعتمد على تواصل مؤسساتي وتقوم بالجمع بين سياسة حوارية وسياسة أداتية عبر وساطة تدبيرات مشورية وكيانات تعقلية تحدث جملة من الاجراءات والتسويغات وتجعل من تشكيل الرأي العام مؤسسة قائمة الذات وتعطي للإرادة الجماعية المشتركة قوة المشروعية التي تستحقها.
ان المسار السياسي لا يحقق نتائج عقلانية ولا يتم في شروط من التواصل إلا اذا جرى وفق النموذج الاجرائي وجسد السياسة التداولية على أحسن وجه وسمح بأن يكون الاجرائي هو النواة المعيارية للنظرية الديمقراطية وتباين مع التصور الجمهوري الذي يريد أن تكون الدولة جماعة اتيقية ومع التصور الليبرالي الذي يرغب في تحويل الدولة الى حارس للمجتمع الاقتصادي. ان النموذج التداولي[7] يركز على البعد السياسي الذي تتضمنه عملية التكوين الديمقراطي للرأي وللإرادة عبر الانتخابات العامة وشغل البرلمان.
علاوة على ذلك تقوم نظرية النقاش بزرع العناصر التي تصلح للجمع بين التصور الليبرالي والتصور الجمهوري وتدمج ضمن الاجرائية النموذجية كل من المداولة والقرار وتسمح للديمقراطية الاجرائية ببلورة صلة داخلية بين المفاوضات والنقاشات حول العدالة والهوية الوطنية وحقوق الانسان الكونية.
هكذا يفتح الوصف البنيوي للمسار السياسي الديمقراطي الطريق نحو بناء مفهوم معياري للدولة والمجتمع ويستوجب وجود ادارة عمومية تعقلن أفعال الدولة في علاقة تضامن وظيفي مع قيم السيادة والمواطنة. اللافت للنظر أن المجتمع حسب التصور الجمهوري يجد مركز ثقله في الدولة وذلك لأن ممارسة التحديد الذاتي السياسي من طرف المواطنين تفترض وعي الجماعة بذاتها وقدرتها على الفعل بواسطة الارادة. كما يبدع التصور الاجرائي رؤية جديدة للسياسة تسيد علاقة صراعية بنائية مع أجهزة الدولة وسلطاتها.
والحق أن الحاجة الى النموذج الجمهوري تعود الى مناهضة حالة الحرمان من المدنية التي تعاني منها المجتمعات الممنوعة من ممارسة السياسة والتصدي الى كل من يبحث عن الشرعية من خلال الأحزاب الحكومية ومحاولة لمنح الحياة الى الفضاء العمومي وتفعيل دور المواطنين في حراكهم ضد الدولة. على خلاف ذلك ينحو التصور الليبرالي نحو نموذج دولة الحد الأدني ويفك قيد الرباط بين جهاز الدولة ومؤسسات المجتمع المدني ويترك المجال الى المواطنين لرسم الخطوط العامة ووجهة المسار الديمقراطي السياسي ويسمح لهم بفرص تحقيق مصالحهم الخاصة وفق العناصر التي تضمنها الدستور.
خاتمة:
" العقلنة rationalisation تعني هنا أكثر من مجرد الشرعنةlégitimation ولكن أقل من تكوين السلطة"[8]
ان نظرية النقاش العمومي عند هابرماس تضيف حمولة معيارية أهم من النموذج الليبرالي وأضعف من النموذج الجمهوري ولكنها تزرع عناصر تكوينية يمكنها أن المسار السياسي الديمقراطي على تكثيف الفعل التواصلي في الفضاء العمومي وتشييد النموذج التداولي والاعتماد على مؤسسات مستقلة ومعقلنة.
لا تقدر نظرية النقاش العمومي على بلورة سياسة تداولية الا في حالة تمكن المواطنون من الفعل التواصلي العقلاني بشكل جماعي ومشترك وصارت الاجراءات والتدبيرات الحقوقية ممأسسة ، وبالتالي لا ينبغي أن يلقي المجتمع بثقله على الدولة ويتنصل من مسؤولياته ودوره وإلا تحولت الدولة الى غول يضم كل شيء ويوجد فوق الجميع وتمركزت السلطة بشكل هرمي ومتعال من جديد. كما يجدر بالمواطنين أن يجعلوا من القوانين الممنوحة لهم مطية لكي يمارسوا حرياتهم بشكل خاطئ ويتحولوا الى ذوات متذرية تمنع من قيام اللحمة بين الجماعة السياسية الواحدة والتعامل معهم ككتلة فاعلة وموحدة.
ان نظرية النقاش العمومي تسرع عمل الشبكات الاجتماعية التي تمتن من عملية التواصل وذلك عن طريق ايجاد البيذاتية التي تتحكم في مسار التلاقي بين المؤسسات النشطة والضاغطة في المجتمع المدني. غاية المراد أن النموذج الليبرالي ينصح بالمحافظة على الحد الفاصل بين الدولة والمجتمع وأن يترك المجال الى المجتمع المدني كقاعدة اجتماعية للفضاء العمومي المستقل، بينما يحرص النموذج الجمهوري على توزيع عادل للثروة والسلطة الادارية والتضامن ويهدف الى ارضاء مطالب الاندماج والتوجيه.
ان التنظيم الاداري العقلاني هو الذي يغير تكوين المجتمع ويحدث تحويلا في العلاقات بين الأفراد والمجموعات وان النسق السياسي هو الوحيد القادر على الفعل في الأشخاص وتغيير الذهنيات وان القرارات الناجعة التي تمس الحياة المشتركة هي التي تقدر على النفاذ الى بنى الفضاء العمومي وتشكيل شبكات تواصلية وتسمح باستعمال مشروع للسلطة ومشاركة شعبية واسعة في ادارة الشأن العام.
هكذا تنبع السلطة الشرعية من التفاعل بين تشكيل الارادة الممأسسة بواسطة دولة الحق والفضاءات العمومية التي ينشطها الفاعلون الثقافيون والجمعيات المجتمع المدني السياسية والاقتصادية والحقوقية.
كما أن التصور المعياري الذي تقوم عليه السياسة التداولية بالنسبة الى الجماعة القانونية يحصل على نمط من الاجتماعية تتأسس عن طريق النقاش ونظرية معيارية في الحقوق وتصور لامتناهي التعقيد للمجتمع. لهذا السبب لا يملك النسق السياسي قمة هرمية ولا يتحرك حول مركز بل هو بنية من القوى المتحركة على مستوى واحد وفي تفاعل دائم. ويبدو الهاجس الأخير للسياسة التداولية هي ايجاد مخرج من كل حالات اللاندماج والاستبعاد والتهميش لبعض المجموعات والأفراد وتوفير نظام مشروع من التواصل والتبادل والتضامن. فكيف يعمل النموذج التداولي على قيام ثقافة سياسية تتمحور حول الحرية والاجتماعية؟
المرجع:
لعل الهاجس الأكبر للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس هو اعادة بناء نسق الحقوق ومنظومة المواطنة المعاصرة بحيث يخلصها من القيمة الإستعمالية ويمنحها قيمة تداولية ويتجاوز الهوة التي تفصل الملكية الخاصة مع حرية المجتمعات ويتخطى التوتر القائم بين حقوق الانسان وسيادة الشعوب. وقد ترتب عن ذلك تدشين حقبة جديدة يلعب فيها الباراديغم الاجرائي[2] دور البطل في المشهد السياسي مع الحاجة للاستنجاد بإتيقا المناقشة والكليات التواصلية التي وقعها بنفسه في الفضاء العمومي والعقل التواصلي.
من المفروض اذن أن تحدد قيمة المواطنة الشروط الأنثربولوجية للحياة السياسية الديمقراطية وتضغط على توجه كل حياة مدنية ممكنة نحو العيش المترك واحترام التعددية وتؤسس بطريقة جذرية انتماء الفرد الى جماعة سياسية معينة وتضع الحق والأخلاق والسياسة في الواجهة التمهيدية لكل فضاء مجتمعي.
على هذا النحو خصص هابرماس قسما من فصل في كتابه "الإندماج الجمهوري"[3] للتساؤل عن ماهية السياسة التداولية[4] وأقر بوجود احالة الى تصورين للسياسة كلاهما يتأسس على أنماط مثالية، هما التصور الليبرالي والتصور الجمهوري، وأشار الى أن الجبهة التي يثار فوقها هذا النقاش هي جبهة الجماعاتيين. ويرجع الى فرانك ميشالمان[5] الذي وصف النموذجين وعارض بينهما بشكل سجالي واعتبرهما يختلفان حول تحديد المواطن ومفهوم الحق وحول الطريقة التي تصور بها المسار الذي تتكون عبره الارادة السياسية. لهذا السبب انفتح هابرماس على عالم العقلانية التواصلية وقام بنقد الحمولة الإتيقية للنموذج الجمهوري والنزعة الاقتصادوية للنموذج الليبرالي وطور تصورا ثالثا للسياسة يسميه سياسة تداولية وهو من طبيعة اجرائية تشاورية.
ان الذي يصنع الفارق بين النموذجين هو وظيفة المسار الديمقراطي. حيث أن دور المسار الديمقراطي في النموذج الليبرالي هو برمجة الدولة لكي تحقق مصلحة المجتمع ولذلك فإن الدولة الليبرالية تمثل هنا جهاز الادارة العمومية ويمثل المجتمع نظام العلاقات بين الشغل الاجتماعي والأشخاص المستقلين الذين يتم هيكلتهم بواسطة اقتصاد السوق. لذلك تعمل السياسة الجمهورية هنا على تشكيل الارادة العامة للمواطنين وترتكز وظيفتها على التجميع وتأكيد المصالح الخاصة بالمقارنة مع جهاز الدولة الذي تكون وظيفته الخصوصية هي الاستعمال الإداري للسلطة السياسية من أجل انجاز وبلورة الأهداف الجماعية. في المقابل وحسب التصور الجمهوري لا يمكن اختزال السياسة عند باب الوظيفة التوسطية التي قد تقوم بها الادارة بين القوى المتصارعة ، وإنما يتوجب علينا أن تبذل جهدا تكوينيا لمسار الاجتماعية في كليتها.
ان السياسة هي الشكل التفكيري للسياق الذي تندرج ضمنه الحياة الإتيقية. وهي كذلك الحاضنة التي يتكون داخلها أفراد المجموعات المتضامنة بصورة تلقائية مع حرصهم على المحافظة على استقلاليتهم المتكاملة بوصفهم مواطنين وعلى تنمية وتطوير بواسطة الارادة والضمير الشروط الموجودة للتعارف المتبادل من أجل تأسيس شركة ذوات حقوقية تتمتع بالحرية والمساواة. يترتب عن ذلك أن التنظيم المعماري الذي تقترحه السياسة الليبرالية للدولة والمجتمع يخضع الى تحولات هامة في الفلسفة المعاصرة وأن الأدوار الجديدة التي تنضاف الى الدولة الى جانب التنظيم التراتبي والسلطة السيادية هي التنظيم بالاعتماد على نموذج السوق بطريق غير مركزية والاهتمام بقيمة التضامن بوصفها مصدر الاندماج الاجتماعي زيادة على سلطة الادارة وتحقيق مصلحة كل فرد. هذا الحرص على بناء الارادة السياسية بطريقة أفقية يكون الهدف منه بلورة التلاقي وصناعة التوافق بواسطة التواصل وايجاد ديمقراطية أفقية تمتلك الأولوية على المجتمع من وجهة نظر تكوينية ومن وجهة نظر معيارية.
ان الواقع البديهي الذي يقره هابرماس بالنسبة الى ممارسة المواطنين للتحديد الذاتي هو الإقرار بوجود قاعدة اجتماعية مستقلة عن الادارة العمومية وعن التبادلات الاقتصادية الخاصة حيث لا يقدر جهاز الدولة على ابتلاعها ولا تتفق هي نفسها من حيث دورها مع بنية السوق. والحق أن النموذج الجمهوري يعطي مفاهيم الفضاء العمومي السياسي وبنيته التحتية والمجتمع المدني معان استراتيجية ويجعلهما يضمنان الالتقاء بين المواطنين ويقوي لديهم تجارب الاندماج والاستقلالية. هكذا تقوم السلطة التي تتأسس على التواصل بتفعيل دور الأفراد في بناء الفضاء المواطني وتحرص على تشكيل الرأي العام وتدفع الإرادة السياسية الى الارتباط العضوي بالسلطة الادارية وتتجاوز القطيعة القديمة بين التواصل السياسي والمجتمع الاقتصادي.
أ- مفهوم المواطن:
في البداية هناك اختلاف حول تحديد مفهوم المواطن بين الليبراليين والجمهوريين. اذ تتحدد منزلة المواطنين عند الفريق الأول بواسطة الحقوق الذاتية التي تعطى لهم من طرف الدولة ومن خلال احترامهم لحدود الملكية الخاصة التي يضبطها القانون مع التزام الدولة بحمايتهم وعدم تعدي على ممتلكاتهم الشرعية بطرق غير شرعية. عندئذ تكون الحقوق الذاتية هي حقوق سلبية حيث تمنح الدولة هامش من الاختيار داخلهم وحيث يكون الأفراد مستقلين على كل ضغط خارجي. والحقوق السياسية هنا تسمح للمواطنين بأن يؤكدوا ملكياتهم الخاصة وأن يكونوا ارادة سياسية وقوة ضغط تحافظ لهم على مصالحهم وأن يكون لهم من يمثلهم في الانتخابات وفي البرلمان وفي الادارة. ان الايمان بقيم المواطنة هو الحل الذي يجب تقديمه كبديل عن انغلاق العالم السياسي في الدولة الشمولية وان التوجه نحو الاندماج والسلم والتعايش والتسامح هي الطريق الشرعي نحو الديمقراطية.
أما في النموذج الجمهوري فنجد أن منزلة المواطنين لا تتحدد وفق الحريات السلبية وإنما من خلال الحقوق المدنية وخاصة حق المشاركة والتعبير والممارسة العمومية وتحمل المسؤولية في الجماعة السياسية. كما أن المسار السياسي لا يتوقف عند مراقبة المواطنين لنشاط الحكومة وذلك بممارسة حرياتهم والمحافظة على حقوقهم الخاصة وإنما يمتد نحو ايجاد أرضية ديمقراطية للتجاذب بين الدولة والمجتمع والنظر الى السلطة الحكومية على أنها قدرة أصلية تتأسس عن طريق التواصل بين المؤسسات وممارسة القدرة على التحديد الذاتي لدى المواطنين ومن خلال حماية الدولة لهذه الممارسة عن طريق مأسسة الحرية العامة. لذلك لا تستمد الدولة مشروعيتها من حماية الحقوق الذاتية ومن تمكين المواطن من الدفاع على مصلحته الخاصة وإنما من ضمان مسار تكوين الرأي والإرادة من طرف المواطنين الأحرار والمتساوين باعتبارهما المصلحة المشتركة بالنسبة الى الجميع. هكذا يكون المواطن في النموذج الجمهوري أكثر فاعلية في تحقيق المصالح المشتركة من المواطن في النموذج الليبرالي الذي يظل حريصا على المصالح الخاصة والفردية ومؤثرا حياة اقتصادية خالية من ضجيج السياسة.
غير أن العيب الذي يقع فيه النموذج الليبرالي هو اخضاعه دولة الحق الى معايير المجتمع الاقتصادي والحرص على اشباع حاجة المواطنين المنتجين في التمتع بالسعادة الخاصة.
ب- مفهوم الحق:
ان معنى النظام القانوني في النموذج الليبرالي هو الذي يسمح بتحديد ووضع الحقوق الممنوحة لبعض الأفراد وان النظام القانوني يبنى بالانطلاق من الحقوق الذاتية، بينما في النموذج الجمهوري تشتق الحقوق الذاتية من النظام القانوني الموضوعي الذي يضمن ويسمح بالاندماج في حياة مشتركة تتأسس على المساواة في الحقوق والاستقلالية والاحترام المتبادل وتعطى الأولوية لمضمون الحق الموضوعي. ان الحق في المشاركة والحق في التعبير السياسي يشكلان البنية التي يتكون منها المسار التشريعي وتغطي مجمل الحقوق الأخرى . كما أن الترخيص الذي يمنحه الحق الخاص من أجل متابعة الاهتمامات الخاصة بحرية واختيار يفرض علينا احترام الحدود الذي تضعها الفعالية الاستراتيجية وتحقيق مصلحة الجميع.
لا يملك التشكيل الديمقراطي للإرادة وظيفة أخرى غير اصباغ المشروعية على ممارسة السلطة السياسية للدولة ولذلك ترتبط مشروعية الدولة باحترام السيادة الشعبية ولذلك تعمد الحكومة الى تبرير استعمالها للسلطة وتدافع على برامجها أمام الجمهور وممثليه في البرلمان. على هذا النحو تمثل الانتخابات فعلا تأسيسيا للمجتمع من حيث هو جماعة سياسية منظمة بطريقة قانونية وتتصرف بشكل عقلاني وإجرائي.
ان مفهوم السيادة الشعبية قد انبثق على أنقاض السيادة الفردية المطلقة ونتج عنه تملك وإعادة تأهيل لدور المواطنين في تسيير المجتمع وحكم أنفسهم بأنفسهم واحترام دولة الحق والنظر الى الحكومة على أنها المخولة لاحتكار عنف الأفراد واستعماله بشكل مشروع وإعادة توزيعه بشكل متساو على قوى المجتمع.
هكذا يشكل الحق بعد اعادة تأويله على ضوء أخلاق المناقشة ضمان المشروعية التي تحتاجها الديمقراطية الناشئة ويرد بشكل حاسم على مسألة العقلانية العملية ويحمل المواطنين كامل مسؤولياتهم ويبحث عن تأسيس مواطنة ما بعد وطنية وذلك عن طريق التفكير في رباط قانوني مدني ما بعد وطني.
ج- طبيعة المسار السياسي:
ثمة عدم اتفاق جوهري حول طبيعة المسار السياسي وذلك بسبب تعدد التعريفات والوظائف بالنسبة الى المواطن والحق. ان السياسة في التصور الليبرالي تختزل أساسا في مواجهة تكون الغاية منها الاستيلاء على مواقع تسمح فيما بعد بالتصرف في السلطة الادارية. ان مسار صناعة الرأي العام والتعبير عن الارادة السياسية يتمان في الفضاء العمومي وبالتحديد في البرلمان ويكون عن طريق التنافس بين الفاعلين الجماعيين والذين ينخرطون في فعل استراتيجي يقصد الاستحواذ على مواقع السلطة. على هذا النحو تحقق المواجهة نجاحا معقولا حينما تنتج حالة من الرضا من طرف المواطنين على الأفراد والبرامج من خلال عدد الأصوات الممنوحة. هكذا يعبر الناخبون عن تفضيلاتهم عن طريق التصويت وتمتلك القرارات الانتخابية نفس البنية التي تحكم اختيارات الفاعلين في السوق حيث يتأسس الفعل من خلال البحث على النجاح. ان الطموح هنا هو بلوغ بعض مواقع السلطة تتصارع حولها الأحزاب السياسية ويتراكم الفعل ويعود بالفائدة على الفضاء العمومي ويكون المجتمع هو الرابح الأكبر. وبالتالي فإن مساهمة الأصوات وإنتاج السلطة يخضعان الى نفس الشكل الذي يرسمه الفعل الاستراتيجي.
في التصور الجمهوري على خلاف ذلك تماما اذ لا يخضع تشكيل الرأي العام والإرادة السياسية في الفضاء العمومي وفي البرلمان الى بنى السوق وقوانين العرض والطلب والإنتاج والتبادل والاستهلاك وإنما الى بنى مستقلة من التواصل الشعبي الموجه نحو التلاقي. ان النموذج في السياسة المعتمدة على ممارسة المواطنين لقدراتهم على التحديد الذاتي لا يتأسس على التبادل التجاري في السوق وإنما على المحادثة في التواصل اللغوي. من هذا المنطلق ثمة فرق بنيوي بين السلطة الادارية التي يفرضها جهاز الدولة والسلطة المستخرجة من التواصل السياسي من حيث هو الرأي الأغلبي الذي يتشكل عبر أداة التشاور والنقاش والتفاوض.
على هذا الأساس تتنافس الأحزاب السياسية من أجل بلوغ مواقع السلطة في الدول وتتوخى أسلوب المناقشات السياسية وتتحلى بجودة الروية والتعقل وحسن التدبير وتبحث عن امتلاك قوة الشرعنة[6]. كما تبحث هذه القوى عن الهيمنة السياسية من خلال الكفاءة في الحجاج والمقدرة على الإقناع أثناء جلسات النقاش العمومي الذي تنخرط فيه مع بقية الأحزاب الأخرى التي تتنافس معها على احتلال مواقع السلطة.
ان أساس السياسات ليس استعمال السلطة الادارية بشكل بيروقراطي من طرف القوة المهيمنة على مواقع السلطة في مفاصل الدولة وإنما تجعل من النقاش السياسي هو مصدر الهيمنة السياسية وقوة الضغط على التوجهات العامة للدولة وتتعامل مع التنافس بين القوى الفاعلة والأحزاب السياسية بوصفه أصل الشرعية التي تضع القوانين المتحكمة في المسار الديمقراطي والإطار العام الذي تتحرك ضمنه الخارطة السياسية.
لكن ماذا يترتب عن هذا الفرق الجوهري بين النموذج الليبرالي والنموذج الجمهوري للديمقراطية؟ وما طبيعة الصراع الدائر الآن في المشهد السياسي العالمي بين الليبراليين والجماعاتيين؟
والحق أن للنموذج الجمهوري محاسن خاصة حينما يقف وراء معنى ديمقراطي جذري للتنظيم الذاتي للمجتمع بواسطة المواطنين المتحدين من خلال التواصل وحين يرفض اختزال المقاصد المشتركة في رعاية المصالح الخاصة المتعارضة. لكن هذا النموذج الجمهوري يظل نموذجا مفرطا في مثاليته ومشترطا المساواة في الحقوق والتكافؤ في الفرص. كما أنه يحرص على جعل المسار الديمقراطي تابعا لفضائل المواطنين المتجهة نحو الخلاص الجمهور. ان الغلط هنا هو اختزال النقاشات السياسية في وصايا اتيقية خاصة وأن السياسة لا تتمثل في طرح مشاكل اتيقية حول الهوية الجماعية.
غير أن النقاش الدائر حول مسألة الهوية الوطنية يظل المشغل الأبرز للسياسيين نظرا لأن المشاركين في هذا النقاش يبحثون عن أسلوب يعبرون به عن انتمائهم لهذه الهوية وعن وعيهم بالتحديات التي تواجهها. لكن كيف تمثل السياسة التداولية تجميعا لمنافع السياسة الليبرالية والسياسة الجمهورية وبديلا عن مساوئهما في نفس الوقت؟ وأين يمكن أن نموضع هذا النموذج الجديد؟ هل ضمن خيارات اليمين الديني والاقتصادي أم ضمن حسابات اليسار الاجتماعي والعمالي المناهض للعولمة؟ ماذا لو يكون النموذج التداولي هو الخيار الثالث الذي تبحث عليه الشعوب الرافضة للبدائل المفلسة؟
د- مفهوم السياسة التداولية:
لا ينال النموذج التداولي أهمية في النقاش السياسي إلا اذا أخذنا بعين الاعتبار التعددية والتنوع وفسحنا المجال أمام مختلف أشكال التواصل بين المجموعات من أجل أن تتشكل إرادة جماعية ورأي عام مشترك. ولا يهتم هذا النموذج بالتعاطي الإتيقي مع موضوع الهوية الوطنية بل يبحث عن تحقيق المصالح والاتفاق على حلول وسطى عقلانية تتماشى من الخيارات العامة وتجسد التماسك القانوني والتسويغ الأخلاقي.
ان السياسة التداولية تعتمد على تواصل مؤسساتي وتقوم بالجمع بين سياسة حوارية وسياسة أداتية عبر وساطة تدبيرات مشورية وكيانات تعقلية تحدث جملة من الاجراءات والتسويغات وتجعل من تشكيل الرأي العام مؤسسة قائمة الذات وتعطي للإرادة الجماعية المشتركة قوة المشروعية التي تستحقها.
ان المسار السياسي لا يحقق نتائج عقلانية ولا يتم في شروط من التواصل إلا اذا جرى وفق النموذج الاجرائي وجسد السياسة التداولية على أحسن وجه وسمح بأن يكون الاجرائي هو النواة المعيارية للنظرية الديمقراطية وتباين مع التصور الجمهوري الذي يريد أن تكون الدولة جماعة اتيقية ومع التصور الليبرالي الذي يرغب في تحويل الدولة الى حارس للمجتمع الاقتصادي. ان النموذج التداولي[7] يركز على البعد السياسي الذي تتضمنه عملية التكوين الديمقراطي للرأي وللإرادة عبر الانتخابات العامة وشغل البرلمان.
علاوة على ذلك تقوم نظرية النقاش بزرع العناصر التي تصلح للجمع بين التصور الليبرالي والتصور الجمهوري وتدمج ضمن الاجرائية النموذجية كل من المداولة والقرار وتسمح للديمقراطية الاجرائية ببلورة صلة داخلية بين المفاوضات والنقاشات حول العدالة والهوية الوطنية وحقوق الانسان الكونية.
هكذا يفتح الوصف البنيوي للمسار السياسي الديمقراطي الطريق نحو بناء مفهوم معياري للدولة والمجتمع ويستوجب وجود ادارة عمومية تعقلن أفعال الدولة في علاقة تضامن وظيفي مع قيم السيادة والمواطنة. اللافت للنظر أن المجتمع حسب التصور الجمهوري يجد مركز ثقله في الدولة وذلك لأن ممارسة التحديد الذاتي السياسي من طرف المواطنين تفترض وعي الجماعة بذاتها وقدرتها على الفعل بواسطة الارادة. كما يبدع التصور الاجرائي رؤية جديدة للسياسة تسيد علاقة صراعية بنائية مع أجهزة الدولة وسلطاتها.
والحق أن الحاجة الى النموذج الجمهوري تعود الى مناهضة حالة الحرمان من المدنية التي تعاني منها المجتمعات الممنوعة من ممارسة السياسة والتصدي الى كل من يبحث عن الشرعية من خلال الأحزاب الحكومية ومحاولة لمنح الحياة الى الفضاء العمومي وتفعيل دور المواطنين في حراكهم ضد الدولة. على خلاف ذلك ينحو التصور الليبرالي نحو نموذج دولة الحد الأدني ويفك قيد الرباط بين جهاز الدولة ومؤسسات المجتمع المدني ويترك المجال الى المواطنين لرسم الخطوط العامة ووجهة المسار الديمقراطي السياسي ويسمح لهم بفرص تحقيق مصالحهم الخاصة وفق العناصر التي تضمنها الدستور.
خاتمة:
" العقلنة rationalisation تعني هنا أكثر من مجرد الشرعنةlégitimation ولكن أقل من تكوين السلطة"[8]
ان نظرية النقاش العمومي عند هابرماس تضيف حمولة معيارية أهم من النموذج الليبرالي وأضعف من النموذج الجمهوري ولكنها تزرع عناصر تكوينية يمكنها أن المسار السياسي الديمقراطي على تكثيف الفعل التواصلي في الفضاء العمومي وتشييد النموذج التداولي والاعتماد على مؤسسات مستقلة ومعقلنة.
لا تقدر نظرية النقاش العمومي على بلورة سياسة تداولية الا في حالة تمكن المواطنون من الفعل التواصلي العقلاني بشكل جماعي ومشترك وصارت الاجراءات والتدبيرات الحقوقية ممأسسة ، وبالتالي لا ينبغي أن يلقي المجتمع بثقله على الدولة ويتنصل من مسؤولياته ودوره وإلا تحولت الدولة الى غول يضم كل شيء ويوجد فوق الجميع وتمركزت السلطة بشكل هرمي ومتعال من جديد. كما يجدر بالمواطنين أن يجعلوا من القوانين الممنوحة لهم مطية لكي يمارسوا حرياتهم بشكل خاطئ ويتحولوا الى ذوات متذرية تمنع من قيام اللحمة بين الجماعة السياسية الواحدة والتعامل معهم ككتلة فاعلة وموحدة.
ان نظرية النقاش العمومي تسرع عمل الشبكات الاجتماعية التي تمتن من عملية التواصل وذلك عن طريق ايجاد البيذاتية التي تتحكم في مسار التلاقي بين المؤسسات النشطة والضاغطة في المجتمع المدني. غاية المراد أن النموذج الليبرالي ينصح بالمحافظة على الحد الفاصل بين الدولة والمجتمع وأن يترك المجال الى المجتمع المدني كقاعدة اجتماعية للفضاء العمومي المستقل، بينما يحرص النموذج الجمهوري على توزيع عادل للثروة والسلطة الادارية والتضامن ويهدف الى ارضاء مطالب الاندماج والتوجيه.
ان التنظيم الاداري العقلاني هو الذي يغير تكوين المجتمع ويحدث تحويلا في العلاقات بين الأفراد والمجموعات وان النسق السياسي هو الوحيد القادر على الفعل في الأشخاص وتغيير الذهنيات وان القرارات الناجعة التي تمس الحياة المشتركة هي التي تقدر على النفاذ الى بنى الفضاء العمومي وتشكيل شبكات تواصلية وتسمح باستعمال مشروع للسلطة ومشاركة شعبية واسعة في ادارة الشأن العام.
هكذا تنبع السلطة الشرعية من التفاعل بين تشكيل الارادة الممأسسة بواسطة دولة الحق والفضاءات العمومية التي ينشطها الفاعلون الثقافيون والجمعيات المجتمع المدني السياسية والاقتصادية والحقوقية.
كما أن التصور المعياري الذي تقوم عليه السياسة التداولية بالنسبة الى الجماعة القانونية يحصل على نمط من الاجتماعية تتأسس عن طريق النقاش ونظرية معيارية في الحقوق وتصور لامتناهي التعقيد للمجتمع. لهذا السبب لا يملك النسق السياسي قمة هرمية ولا يتحرك حول مركز بل هو بنية من القوى المتحركة على مستوى واحد وفي تفاعل دائم. ويبدو الهاجس الأخير للسياسة التداولية هي ايجاد مخرج من كل حالات اللاندماج والاستبعاد والتهميش لبعض المجموعات والأفراد وتوفير نظام مشروع من التواصل والتبادل والتضامن. فكيف يعمل النموذج التداولي على قيام ثقافة سياسية تتمحور حول الحرية والاجتماعية؟
المرجع:
Jurgen habermas, l’intégration républicaine, essais de théorie politique, édition Fayard, Paris, 1998.
1] Jurgen habermas, l’intégration républicaine, essais de théorie politique, édition Fayard, Paris, 1998.p.268
[2] Paradigme procedural
[3] Jurgen habermas, l’intégration républicaine,p.257.
[4] Qu’est-ce que la politique délibérative ?
[5] F. I. Michelman, Political truth and the rule of law.
[6] légitimation
[7] Paradigme délibératif
[8] Jurgen habermas, l’intégration républicaine,p.271.
1] Jurgen habermas, l’intégration républicaine, essais de théorie politique, édition Fayard, Paris, 1998.p.268
[2] Paradigme procedural
[3] Jurgen habermas, l’intégration républicaine,p.257.
[4] Qu’est-ce que la politique délibérative ?
[5] F. I. Michelman, Political truth and the rule of law.
[6] légitimation
[7] Paradigme délibératif
[8] Jurgen habermas, l’intégration républicaine,p.271.
0 comments:
إرسال تعليق