العبث بقانون الغفران!/ ناجي أمل الوصفي

عندما كنت في مِصر أم الدنيا، كان لي صديق يُدعى عبثان بن خربان. وكان لعبثان هواية غريبة لا يهواها إلا إنسان ذو ذكاء خارق وقوة ملاحظة فوق عادية وشخصية فريدة من نوعها. كان عبثان يعشق العبث بالأجهزة الكهربائية مثل المكانس والمراوح الهربائية واجهزة الراديو والفيديو والتلفزيون. وكان عبثان يجلس ساعات طويلة بدون ملل أو كلل يراقب خلاط الفواكه مثلا. ثم يبدأ في تشغيله بدون سبب. ثم يفرض علي سماع وجهة نظره عن كيف يمكن تحسين عمل الخلاط إذا قلبه راسا على عقب مثلا أو غير قطعة به أو استبدل جزء منه بجزء آخر انتزعه من الغسالة أو من سيارة الجيران العطلانة!!! وعندما يتأكد من أنه قد اصاب قلبي المريض بسقم يستحيل علاجه، كان عبثان يتركنـي وشأني وياتي بعدّة لو رأيتها لوقعت مغشيا عليك في التو والحال ويبدأ في العبث بالجهاز. النتيجة دائما واحدة: موت الجهاز وصعود روحه البريئة إلى السماء وهي تقول تباً لك يا عبثان بن خربان.
كنت في العشرينات من عمري في ذلك الوقت. وفي غمضة عين وجدت نفسي وأنا في الستينات من عمري أقرأ عن عبثان آخر! جاء ذكر عبثان الجديد في تقريرٍ عن قانون التواطئ. قانون ماذا؟ قانون التواطئ أو بالعربي البسيط قانون مجالسة المجرمين.
 منذ سنتين تقريبا انتشرت جرائم "أشقياء الموتسيكلات"، اي الجرائم التي يرتكبها اعضاء جماعات الدراجات النارية، في غرب مدينة سيدني، أستراليا. فتفتق ذهن جهابذة العبث بالتراث القانوني عن فكرة ليست بجديدة ملخصها كما يلي: إنْ رصدك البوليس تحتسي الشاي أو ترشف باستمتاع رشفات ممتعة من القهوة البرزيلية ذات النكهة الأقحوانية مع شخص كان في يوم من الايام مسجونا لسبب ما، فسوف يلقي البوليس القبض عليك ويزج بك (بالقانون طبعا) في غياهب السجون بعد إدانتك بتهمة التواطئ أو مجالسة المجرمين! (يالا الهول يازلمة!)
يالا الهول يازلمة! إقرأ هذه الاغنية الحزينة! عبثان الأسترالي عبث بالقانون الانجليزي العتيق وسن قانون يعاقب على مجالسة المجرمين. ما هي العقوبة؟؟ إجبارك (بالقانون طبعا) على مجالسة عدد أكبر وأخطر من المجرمين!!
كيف؟؟ عندما يلقي بك رجال البوليس في غياهب السجون (لمجرد الحديث مع تائب) فهم يتواطئون ضدك ويحيكون لك مؤامرة قانونية ترغمك على مجالسة جميع المسجونين بالسجن الذي سيزجون بك في غياهبه، اليس كذلك؟؟؟
هناك قول عربي مأثور يقول: لا تنهي عن شيئ وتاتي بانجس منه. عبثان بن خربان الأسترالي (وهو إنسان ذكي جدا ولكنه غير حكيم)  يريد أن يصلح حالي! الله وأكبر ياعرب! فلما رأى حالي الاعوج ومجالستي لمجرم واحد يوحد ربه عاقبنـي بإجباري على مجالسة مئتين من المجرمين! (يالا الهول يازلمة!)
وبعد أن أنفق شعب ولاية نيو ساوث ويلز الغلبان الفقير الذي يكدح في الصهد لدفع الإجار البهاظ وفاتورة الكهرباء القاتلة مئات الآلاف من الأصفر الرنان، وبعد أن تم سن القانون التعبان وتطبيقه كيفما كان، كان أول ضحية له شاب استرالي  مسكين عيان يُدعى تشارلي فوستر مان. وقد تمت إدانته لتعامله مع أحد الاصدقاء وشخصين آخرين ساكنين معه في نفس المنزل بمدينة "إنفيرل" شمال ولاية نيو ساوث ويلز وهم من أصحاب السوابق الجنائية.
وأمضى تشارلي فوستر تسعة أشهر في ظلام السجن قبل أن يطعن محاميه في حكم المحكمة. وقد قررت محكمة الطعن إلغاء الحكم الصادر ضد تشارلي فوستر التعبان لأسباب عديدة لن نخوض بها هنا. المهم هنا هو أنه بعد هذا العبث بالقوانين وبعد مئات الالاف من الدولارات وبعد هذا الخراب الذيالمّ بتراثنا القانوني، مات تقليد الغفران القديم وصعدت روحه إلى السماء وهي تقول: تباً لك ياعبثان.
ألم يكن السيد المسيح يجالس العاهرات والمرضى وقطاع الطرق والمفلوجين والقتلة والجربانين والسفاحين والمختلين عقليا والمجرمين؟ ألم يكن السيد المسيح يحضن الثكالى والحزاني والبرص والبكم والعمي؟؟ ألم يترك لنا رب المجد تراث عظيم ينادي بالمحبة والغفران والتسامح والمودة؟ هل نحن مجبورون على العبث بتراثنا القانوني المسيحي؟ لقد ترك لنا السيد المسيح قانون الغفران ويجب علينا جميعا ألا نسير وراء عبثان وألا نعبث بتراثنا القانوني العظيم.
دعنا من مثاليات السيد المسيح فنحن الآن في زمن العبثان! ألم يقل لنا أولي الأمر والعلمانيون والديمقراطيون والايجاليتريانون والمتحذلقون أن من قضى عقوبة السجن لما أرتكبت يداه من أثم فهو حر بعد أن دفع الثمن؟؟؟
 ماذا أفعل إذا التقيت بشابة جميلة على كافيتيريا "كابوتشينو كراود" وتجاذبنا أطراف الحديث؟ هل يريد السيد عبثان بن خرفان بن خربان الأسترالي أن اسألها أولا: هل قتلتي أحد أيتها الفاتنة؟! وإن أجابت بلا ياسلطان الزمان، فهل يجب علي أن اسألها ثانية: هل سرقت بيت جارك أيتها الجميلة؟! وإذا كان قانون العقوبات يحتوي على خمسمائة جريمة فهل يريد السيد خربان والد خرفان والد عبثان أن اسألها خمسمائة سؤال عن سجل سوابقها قبل ان اجالسها؟؟؟
دعنا من هذا التلاعب بالالفاظ! ماذا يطلب منـي عبثان إن كان لي صديق غرر به أبن السلطان (جمال مبارك المصري = رو جوي الاسترالي) الجبان وجار عليه الزمان وتمت محاكمته وادانته بشهادة شهود زور؟؟؟ هل يجب على أن اتخلى عنه؟؟؟ أهكذا يتصرف الفرسان؟؟؟تباً لك ياعبثان!
وماذا لو كان لي قريب أو صديق بالفعل أرتكب جريمة ودفع ثمنها وأصبح حرا مرة أخرى ويريد أن يعيش حياة أفضل بمجالسة الشرفاء؟ هل أنصب نفسي إلاها وأقول له أذهب عنـي يافاعل الاثم؟؟؟ أي نوع من الهبل القانوني والجبن الاجتماعي والتخلف الحضاري  هذا ياعبثان؟؟؟؟
أترك العجرفة والكبرياء في التوليت يا عبثان وفكر في هذا السؤال: هل يحق لك أنْ تحرم الشخص الذي ارتكب خطأ في الماضي ودفع ثمنه وتاب في قلبه من حقه الشرعي في مجالسة الشرفاء؟؟؟
لا تشغل بالك بمن أنا، فأنا لا انافسك على سلطة أو جاه أو مال. كل ما أطلبه منك هو التفكير!!! فكر فيما اقوله لك! اليست العلاقة بين اثنين علاقة لها جانبان؟؟ ألا يحق لمن دفع ثمن جرائمه ويريد أن يعيش حياة شريفة أن يجالس الشرفاء؟؟؟ فإن زج عبثان بن خربان بالشرفاء في السجون لأنهم جالسوا إنسان كان في الماضي مجرما واصبح إنسانا شريفا بكل معنـى الكلمة، ألا تعتقد أن عبثان بن خربان الأسترالي في هذه الحالة قد أرتكب جريمتان في نفس الوقت؟؟؟ واحدة ضد التائب وواحدة ضد الشريف.
فكر! إقرأ! إقرأ باسم ملك الغفران! إقرأ حتى لا تهلك مثل الذين هلكوا من قبلك بالحقد والبغض والكراهية وعدم الغفران! إقرأ حتى لا تسلك سلوك عبثان!

CONVERSATION

0 comments: