نريد حياة بلا ظالمين/ زهير الخويلدي

" إن الظالم لا يكون ظالما لغيره حتى يظلم نفسه... والعادل مع الناس إذا هم بالعدل وتحراه فقد عدل مع نفسه قبل أن يعدل مع غيره"[1]

يعاني بني الإنسان من دائرة الناطقين بلغة الضاد في زمن العولمة من الفساد الوجودي والتدحرج الأخلاقي ومن التفاوت الاجتماعي الصارخ واللامساواة على صعيد توزيع الخيرات والمنافع وتضخم درجات المظلومية وانكماش دوائر العدالة ،ورغم المحاولات المبذولة من أجل إصلاح ذات البين وتنقية الأجواء المشحونة وتهذيب التدافع بالتي هي أحسن من طرف بعض الجهات الرسمية والهيئات المدنية إلا أن دار لقمان بقيت على حالها والأوضاع تفاقمت نحو الأسوأ وانسداد الآفاق بالنسبة للشبيبة الأبية قد ضاعف لديها درجات الإحباط وأفقدها الأمل في تعمير الأرض واستصلاح الفعل، والمدهش أننا نعثر على الظالمين في كل مكان تقريبا حيث هناك سلطة ومصلحة من السياسة إلى الاقتصاد مرورا بالاجتماع والتربية والثقافة وأنهم ليسوا على وعي بذلك بل يعتقدون أن ما يقيمون به هو قمة العدل والاستقامة.

فماهي دلالة الظلم؟ وماهي الأسباب الموقعة فيه؟ وماهو تعريف العدل؟ وكيف السبيل إلى التقيد به على مستوى المبدأ وفرضه على صعيد الواقع؟ وهل يمكن للمحبة أن ترفد العدالة في سعيها إلى زرع الأمل والحث على العمل الصالح؟ وماذا ستضيف المحبة والصداقة إلى هذا الوضع المتأزم؟

ما نقصده من خلال هذا الاستشكال ليس تبرير الأفعال المشينة بالاحتماء بالحتميات القهرية وإنما اقتلاع المظلومية من جذورها وتحميل أولى الأمر في الإنسان سواء العقل على الصعيد الفردي أو الدولة على الصعيد الاجتماعي المسؤولية الكاملة في وقوع ذلك وتبعاته العاجلة والآجلة.

 
1- دلالة الظلم:

" يتكون الظلم من نقيضين، الأول هو تحمل الظلم، والثاني هو اقترافه" أرسطو

الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه المخصوص به وهو انحراف عن العدل وترك الحق إما قريبا وإما بعيدا، والإفراط في الجور يسمى عدوانا وطغيانا ومتى أمعن الظالم في البعد عن الحق صعب عليه حينئذ الاهتداء والإقلاع. ومن صفات الظالم أنه انسلخ عن دائرة الإنسانية وتعطل عن تعاطي العدل وصام عن الأعمال الجليلة وعن نفع الناس واحتكم إلى التخلق والرياء والتصنع واحتكم إلى القوة والتغالب ضد الضعيف والمحتاج.وقد يظلم المرء نفسه وغيره وربه وأبويه وعامة الناس إذا تولى الحكم بينهم. كما أن وقوع الظلم على المرء يسمى الانظلام والسعي نحو دفعه عند السلطان أو الله يسمى تظلم، والانظلام ينتج عن الانخداع والتغافل ويكون في المال والكرامة والنفس وينقسم إلى محمود بقدر ما يحسن وفي وقت ما يحسن ويرتبط بالمسامحة والعفو والتواضح ومذموم وهو الاستخذاء للظالم بقدر ما يجلبه في النفس من غبن وسخط وهوان ومذلة. وقد قيل في المأثور:"أظلم الناس من جار على نفسه ثم من جار على ذويه ثم من جار على كافة الناس"[2]. يترتب عن ذلك أن ترك العدل إلى الظلم عمدا هو أمر مذموم يستوجب به المرء سخط الناس وعقاب الله خصوصا وأن أفضل الناس هو من عدل مع نفسه وغيره وأقرب الناس اليه.

قد يسقط المرء في حال الانظلام أو يقترف الظلم بسبب الشرارة أو الشهوة أو الشقاوة أو الخطأ ولكن أهم الدوافع التي تؤدي إلى ارتكاب المظالم هي المكر والخديعة والحيلة والكيد وذلك بالاستدراج والإضمار والترصد والإضرار بالنفس والغير توصلا إلى نفع دنيوي أو خوف عقوبة السلطان. فهل من آفة حسب أرسطو أعظم من الظلم إذا أمسك بيده سلاحا؟ وماهو الفعل الذي يحسن ترك الظلم فيه؟ وما السبيل للارتقاء في الحكم من العدل والقسط إلى الافضال والإحسان؟

2- الحاجة الى العدل:

" الفرق بين الإحسان والافضال: أن الإحسان النفع الحسن، والافضال النفع الزائد على أقل المقدار وقد خص الإحسان بالفضل ولم يجب مثل ذلك في الزيادة لأنه جرى مجرى الصفة الغالبة كما اختص النجم بالسماك ولا يجب مثل ذلك في كل مرتفع."[3]

إذا اعتبرت لفظة العدل بالقوة فهي هيئة في الإنسان يطلب بها المساواة وإذا اعتبرت بالفعل فهو التقسيط القائم على الاستواء، وهكذا يكون الإنسان العادل تام الفضيلة وتقع أفعاله على نهاية الانتظام ويكون العدل أكمل الفضائل وميزان الله في العالم وهو صواب بلا زيادة أو نقصان ووسط أطرافه كلها جور. بالعدل يكون الاستبقاء والبناء وبالظلم يكون الخراب والاندحار ولذلك ينبغي أن يكون المرء عادلا مع نفسه ومع غيره ومع ماضيه ومع ربه ومع عامة الناس إذا كان حاكما وينقسم العدل إلى مقيد ومطلق، فأما المقيد فهو نسبي ومتغير وعلى سبيل المجاز وينسخ في بعض الأحيان ويمكن أن يوصف بالجور ، أما المطلق فهو الحكم الحسن الذي يقتضيه العقل ويعرف بأنه جذب الإحسان إلى من أحسن إليك وكف الأذية عمن كف أذاه عنك. إن العدل هو بث النصفة بين الناس على سبيل الحكم، والحكم العدل هو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والنص العدل هو مجمع الحق ومنبع الإحسان والأفضال، وقيل إن أعدل الناس من أنصفه عقله من هواه.وقد جاء في المأثور: " يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم". فكيف لا يتجنب الناس حكم الظالمين وأفعالهم كلها شرا ولا يرجوا فضل العادلين وأفعالهم كلها خير؟

محاربة الظلم وزرع العدل يكون بالتسلح بالمحبة والاعتصام بالصداقة وذلك قصد الوصول إلى بلورة أخلاق المحبة وسياسة الصداقة كوسيطين رمزيين لإزالة التنافر الذي يهز دائرتي الحقيقة والتاريخ. وتعرف المحبة على أنها ميل النفس إلى ما تراه خيرا إما للشهوة والمنفعة أو للفضيلة وتوجد المحبة في منزلة وسطى بين العش والصداقة طالما أن العشق إفراط في المحبة والصداقة تبيح التفريط بمنفعة الذات من أجل منفعة الجماعة وقد قيل:" أحد أسباب نظام أمور الناس المحبة ثم العدل ولو تحاب الناس وتعاملوا بالمحبة لاستغنوا بها عن العدل"[4]، وآية ذلك أن المحبة تؤلف بين القلوب وتحقق التواصل بين الأفراد والتعاون في الأعمال وتسهم في تعمير الكون من قبل بني الإنسان ليتأكد باجتماعهم الأنس وليقع بسبب ذلك الود. فأي دور تؤديه الصداقة في مجابهة الظلم وفرض العدل؟

 
3- المحبة والصداقة:

" عندما نحب بالمعنى الحقيقي للكلمة فانه يتعذر علينا أن نكره" كارل ياسبرس

إن التظالم هو احد الأسباب المفضية إلى العداوة والبغضاء بين الناس، والعداوة هي القصد إلى الإضرار بالغير بالتحري في التخلص منه أو بالتضاد فيما يؤدي إلى مصالحه، وسببها شيطان الهوى ورأسها الغضب والجهل الذي يتحول إلى كره واضطغان يؤدي إلى إهلاك المعادي وتأذيته ونشر الفساد في البر والبحر ويزداد الفقر وينعدم الأمن وتبرز الهوة بين المالكين والعاملين.

اللافت للنظر أن علاقة المرء بالناس تخضع لجدلية الاختلاط والتفرد لكون اختلاط العاقل الفاضل بالعامة واجب إذا كانت الغاية منه إقامة مراتب الحقيقة عندهم وإنالتهم من الأفعال الجميلة بقدر الوسع ولكن هذا الاختلاط نفسه يتحول إلى رذيلة وفعل مذموم إذا كان يعقبه حط من المقامات وذهاب لوقار العلم ووقار الأخلاق. من هذا المنطلق إن الناس لا يستغني بعضهم عن بعض والأصل أن اجتماعهم مع بعضهم البعض ضروري والتفرد مكروه باستثناء من أجل التفرغ للبحث والتأمل وكما قيل من استأنس بالحق استوحش من الخلق. فهل يجوز القول بأن المروءة التامة هي مباينة العامة؟

إن التخلص من التظالم بين الأنا والآخر والتعادي مع الغير يتوقف على حب الناس ومصاحبة الأخيار ومجانبة الأشرار ويتطلب تخلي المرء عن المشاكسة وقسوة القلب والملق والتحلي بطلاقة الوجه والجود والتحالم والمطايبة في الكلام ويحب المساعدة وسلاسة الطبع والابتعاد عن الخلاف ويكون ظريفا ولين الجانب وقادرا على الاحتمال وكما قيل:"أن يجامل المعاشرين والمعاندين والمشتهين منهم بالإخوان ويصابرهم ويكاشرهم طمعا في رجوعهم إخوانا واتقاء من شرورهم"[5].

إن حلول مركب المحبة والصداقة في الفضاء المجتمعي يعني رحيل مركب الظلم والعداوة، ورغم أن الصديق الحقيقي هو عملة نادرة ومطلب عسير لكون اختيار من تركن إليه لتصادقه أمر صعب إلا أن التفتيش عنه هو من الأوكد المطالب الاجتماعية وأكثرها نبلا لكثرة نفعه واستحالة الاستغناء عنه. وإذا كان الصديق هو أنت بالنفس إلا أنه غيرك بالشخص فإنه ما يحتاج إليه في كل حال إما للتعاون في الضراء أو للمؤانسة في السراء. وقد قيل:" إنما سمي الإنس إنسا لأنه يأنس بما يراه خيرا وان شرا"[6]، وعلى خلاف المكروه فإن الشخص المحبوب هو من صفى جوهره وطابت روحه وحسن عمله وتهذبت مشاعره وسكنت انفعالاته ولذلك من حق الإنسان أن يصاحب الأخيار فإنها قد تجعل الشرير خيرا ويتجنب مجالسة الأشرار فإنها قد تجعل الخير شريرا. إن المحبة تقتضي التنازل للغير عما كان مخصصا للذات بنوع من الإيثار والتضحية في سبيل الخير المشترك والتمتع بالفرح والتسلح بشجاعة الأمل.

غني عن البيان أن المركز يرتكب الحيف تجاه الأطراف وثقافة المدينة تحاصر قيم الريف والأغلبية تضطهد الأقليات والعالم يسخر من الأمي والغني يظلم الفقير وصاحب رأس المال يستغل موظفيه والأول في كل طائفة أو حزب يحتكر لنفسه وجاهة المنصب وحق الكلام والتسيير، كما أن مقاومة الظلم خفت زمن العولمة وقلت المعارضة واعتبرت نوع من العناد وانحصرت مساحة النقد وصار الكتبة من سدنة السلطان وتراجع دور الثقافة في عملية التغيير وأمسك رجال المال والعسكر السلطة الفعلية.

هكذا يكون ترك الصداقة لصالح العداوة والعدل إلى الظلم في جميع الأحوال أمرا مرفوضا ويكون الاعتصام بالمحبة في الأخلاق والعدالة في السياسة أمرا مستوجبا ولازما. فمتى تكف الكائنات الآدمية عن التسلطن المؤذي وتعطي كل ذي حق حقه؟ ومتى يكف الناس عن الانظلام والتغاضي عن حق له في المال أو في الكرامة أو في النفس؟ وأليس من المفروض أن نحلم بحياة بلا ظلم؟ ألا يكون التوق إلى العدل سوى تخوفا من وقوع الظلم؟ وأليس السور الذي يحمينا كوننا مظلومين؟

المرجع:

 
الراغب الأصفهاني، الذريعة في الشريعة ، تحقيق أبو اليزيد العجمي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 2007

أبو الهلال العسكري، معجم الفروق اللغوية، نسخة محملة.

[1] الراغب الأصفهاني، الذريعة في الشريعة ، تحقيق أبو اليزيد العجمي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 2007. ص.ص.254-253

[2] الراغب الأصفهاني، الذريعة في الشريعة ، ص.253.

[3] أبو الهلال العسكري، معجم الفروق اللغوية، الفقرة 71

[4] الراغب الأصفهاني، الذريعة في الشريعة ، ص.257.

[5] الراغب الأصفهاني، الذريعة في الشريعة ،ص.259.

[6] الراغب الأصفهاني، الذريعة في الشريعة ، ص.259.

CONVERSATION

0 comments: