ليست لعبة "بوكر"/ نقولا ناصر

في مواجهة إجماع شعبي وسياسي فلسطيني على رفض استئناف أي مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي لم يتمخض عن جولاتها العلنية والسرية التي لم تنقطع منذ مؤتمر مدريد عام 1991 سوى إطالة أمد الاحتلال العسكري وترسيخ الاحتلال الاستيطاني وتوسعه، وهو إجماع لا يشذ عنه سوى القيادة التي ارتهنت القضية الوطنية والقرار الفلسطيني للخيار الواحد الوحيد المتمثل في "التفاوض فقط"، فأوصلت حركة التحرر الوطني الفلسطينية إلى وضعها الراهن المشلول، تبحث هذه القيادة الآن عن "تطمينات" و"ضمانات" دولية، وبخاصة أميركية، كمسوغ لاستئناف هذه المفاوضات، وسط توقعات باحتمال لجوئها إلى الدبلوماسية السرية لاحتواء ردود الفعل الوطنية الرافضة.

وقد حصلت هذه القيادة، كما كان متوقعا، في القاهرة يوم الخميس الماضي على "غطاء" اللجنة الوزارية لمتابعة مبادرة السلام العربية التي تركت لها اتخاذ قرار "توقيت" استئناف المفاوضات المباشرة، وهذا مخرج يسمح لكلا الطرفين بتحميل الطرف الآخر المسؤولية عن استئناف المفاوضات المباشرة، فوزراء خارجية لجنة المتابعة يمكنهم القول، إذا استؤنفت المفاوضات ولم تنجح، كما هو متوقع، إن القرار كان بيد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وبالمثل يمكن لعباس أن يقول في هذه الحالة إن قرار استئناف المفاوضات كان قرارهم هم وإنه كان الموكل بتنفيذه فحسب، أما إذا نجحت المفاوضات فإنها تخريجة تسمح لكلا الطرفين بادعاء الفضل فيها.

واحتمال اللجوء إلى الدبلوماسية السرية واقعي تماما، لأن مثل هذه الدبلوماسية، أولا، هي التي أنتجت الوضع الراهن في المقام الأول، ولأنها ثانيا جزء لا يتجزأ من الممارسة التاريخية لهذه القيادة منذ أبرمت اتفاق أوسلو عام 1993 من وراء ظهر الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن ومن وراء بعض حلفائها العرب الذين تتدثر حاليا بغطائهم لاستئناف التفاوض العلني المباشر، ولأنها ثالثا دبلوماسية سرية لم تنقطع، لا اتصالا ولا تفاوضا، بالرغم من أن ثمارها السياسية لم تكن أفضل من نتائج الدبلوماسية العلنية، بل أثبتت بأنها الأسوأ.

وهو احتمال واقعي ليس فقط لأن محللين خبراء يتوقعونه مثل فخري الطهطاوي، استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعماد جاد، خبير الشؤون الإسرائيلية في مركز الأهرام، بل لأن الرفض الشعبي والسياسي الفلسطيني لاستئناف المفاوضات ليس إلا أحد العوامل التي تدفع باتجاه الدبلوماسية السرية.

ومن العوامل الأخرى ارتهان القيادة المفاوضة لمنظمة التحرير الفلسطينية لخيار "التفاوض فقط" الذي يجعل مسارها السياسي في اتجاه واحد فقط، أميركي – إسرائيلي طبعا، يغلق كل الخيارات المفتوحة الأخرى أمام حركة النضال الوطني.

ثم إن الضغوط الأميركية التي جندت معها الضغوط الأوروبية لاستئناف المفاوضات المباشرة هي عامل ثالث لاقبل لهذه القيادة بمقاومته وإلا قطعت شريان الحياة التي يمدها بأسباب البقاء، لتكون الدبلوماسية السرية هي المخرج الوحيد المفتوح أمامها للرضوخ لهذه الضغوط وتفادي مواجهة مكشوفة مع الرفض الوطني لاستئناف المفاوضات.

وهي على كل حال دبلوماسية لا يوجد أي دليل على أن هذه القيادة لا تمارسها فعلا الآن في غياب المفاوضات المباشرة العلنية، ربما لتضمن "نجاح" المفاوضات، كما حدث في أوسلو قبل سبعة عشر عاما، قبل أن تنقلها إلى العلن.

والوضع الذي يجد نفسه فيه اليوم القائد التاريخي للمسيرة التفاوضية الفلسطينية، محمود عباس، هو وضع لا يحسد عليه، فهو "عاجز" أمام شعبه عن الانتقال إلى مفاوضات مباشرة، دون "أجندة" ودون "ضمانات" ودون "مرجعية"، لأنه سوف "يقوض تماما" الأسس التي يقف عليها - - وهو قد "غامر بسمعته فعلا ببدء المفاوضات غير المباشرة" بوساطة أميركية عندما ناشد شعبه أن "يعطيه فرصة" بعد أن تلقى رسالة من الإدارة الأميركية تحثه على الدخول في محادثات كهذه - - ما لم يحدث "تغيير في السياسة الإسرائيلية"، كما قال كبير مفاوضيه صائب عريقات للفايننشال تايمز البريطانية يوم الأربعاء الماضي. ولا يوجد أي مؤشر إلى احتمال حدوث أي تغيير كهذا في المدى المنظور، لا في سياسة حكومة دولة الاحتلال، ولا في السياسة الأميركية خصوصا عشية انتخابات الكونغرس النصفية بعد أقل من مئة يوم.

لا بل إن الأسوشيتدبرس قالت الأسبوع الماضي إنها حصلت على وثيقة فلسطينية كشفت بأن المبعوث الرئاسي الأميركي جورج ميتشل خلال جولته السادسة الأخيرة في المنطقة قد "حذر عباس" بأنه إذا لم يوافق على استئناف المفاوضات المباشرة فإن "الرئيس باراك أوباما لن يكون قادرا على مساعدة الفلسطينيين في تحقيق دولة خاصة بهم" !

فالرئيس الأميركي، الذي يضغط على هذه القيادة بقدر ما يضغط على حلفائه وحلفائها العرب من أجل استئناف المفاوضات العلنية التي لم تنقطع سرا على كل حال، يتباهى بأنه لاعب "بوكر" جيد، كما كتب جون فيفر في "فورين بوليسي إن فوكاس" في 16/9/2009، ملمحا إلى أن أوباما يتعامل مع "عملية السلام" نفسها كلاعب بوكر، بدأ اللعبة في بداية عهده برفع "الرهان" عاليا عندما طالب دولة الاحتلال بوقف كل أشكال التوسع الاستيطاني، كشرط لاستئناف هذه العملية، ليجر معه قيادة التفاوض الفلسطينية إلى الرهان على رهانه الذي خسره بطريقة مهينة، ليتبين بأن "القوة العظمى الوحيدة في العالم إنما كانت تخادع فحسب"، لتترك هذه القيادة "معلقة فوق الشجرة"، كما يقول المصطلح السياسي الدارج إعلاميا اليوم، لا تستطيع النزول عنها لكي ترضخ للضغوط من أجل استئناف المفاوضات المباشرة.

لكن قضية حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإنهاء احتلال وطنه كشرطين للسلام الذي لا يوجد في العالم اليوم شعب أحوج منه إليه ليست "لعبة بوكر"، وقد آن لهذه اللعبة أن تتوقف، وليست المفاوضات العقيمة التي يضغطون من أجل استئنافها اليوم إلا جزء لا يتجزأ منها.

ويلفت النظر في الأيام الأخيرة البحث عن "تطمينات" وضمانات" يتخذ المفاوض الفلسطيني منها مسوغا يسترضي بها شعبه من جهة و"تنزله عن الشجرة" التي صعد إليها على سلم رهانات أوباما في لعبة سياسية ك"البوكر" من جهة أخرى. فقد طالب الأمين العام لجامعة الدول العربية أمس الأول ب"ضمانات مكتوبة". و"طمأن" وزير الخارجية الاسباني ميغيل موراتينوس مفاوض منظمة التحرير الأربعاء الماضي بأن بيان الاتحاد الأوروبي الأخير الذي كرر بياناته السابقة يوفر "المرجعية" التي يبحث عنها هذا المفاوض ك"ضمانة" ولذلك حث بدوره عباس على الاجتماع مع رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو "على عجل، ومباشرة، ودون شروط".

وفي القاهرة أعلن المتحدث باسم الرئاسة المصرية، سليمان عوض، في اليوم نفسه أن مصر حصلت على "تطمينات أميركية" تساعد في استئناف المفاوضات المباشرة. وكان الرئيس حسني مبارك حتى قبل الحصول على هذه "التطمينات" قد نشر مقالا نادرا باسمه في الوول ستريت جورنال أواخر الشهر الماضي قال فيه إن"تسوية تاريخية هي في متناول اليد" الآن وإن أوباما "قد أظهر استعدادا للقيادة من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط، ويجب على العالم العربي أن يرد بالمثل". وقال وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط إن وزراء خارجية لجنة المتابعة العربية كانوا يتطلعون يوم الخميس الماضي إلى الاستماع من عباس عن "التطمينات" التي تلقاها من الأميركيين، وكأنما الوزير المصري ليس مطلعا فعلا على كل ما في جعبة عباس الذي يطلع نظيره المصري عليه قبل أن يطلع حتى المؤسسات الفلسطينية عليه.

لكن عباس نفسه أبلغ المجلس "الثوري" لحركة فتح مؤخرا بأن ميتشل قد نقل "تطمينات أوباما الخاصة بالمفاوضات" لكنها "ليست واضحة" بما يكفي، وأن المباحثات غير المباشرة لم تحرز تقدما، ولا يوجد جديد يقنعه بالذهاب إلى المفاوضات المباشرة.

فما هي "التطمينات" و"الضمانات" الجديدة التي يمكنها أن تكون أكثر مصداقية من كل مثيلاتها السابقة التي لا تساوي قيمة الورق التي كتبت عليه، كما أثبت تطور الأحداث، والتي تسوغ استئناف المفاوضات، مباشرة كانت أم غير مباشرة، سرية أم علنية، بدءا من رسالة التطمينات الأميركية التي قدمت للمفاوض الفلسطيني في مؤتمر مدريد في 18/10/1991، التي تعهدت بكل ما يطالب به هذا المفاوض من تطمينات حاليا، مرورا ب"خريطة الطريق" وما سبقها وما أعقبها من "تطمينات أميركية" وانتهاء ب"تطمينات" مؤتمر أنابوليس عام 2007 ؟

وما هو الأمر "المباشر" الجديد الذي يجعل أي مفاوضات مباشرة يتم استئنافها الآن تتميز نوعيا عن مثيلاتها المستمرة منذ توقيع اتفاق أوسلو والتي قاد فشلها إلى الوضع الراهن المشلول ؟

إنها كما يبدو مجرد لعبة بوكر أميركية، أدمن عليها كل "اللاعبين". لكن نتيجة ما يسمى "عملية السلام" كانت صفرا حتى الآن لأن القضية الفلسطينية ليست لعبة بوكر، بل مصير شعب ووطن تحت الاحتلال !

* كاتب عربي من فلسطين

nicolanasser@yahoo.com*

CONVERSATION

0 comments: