عرفات: الرجل الذي يعرف إلى أين يذهب/ د. أفنان القاسم



ترجمة كتاب كيف ولماذا تمت فبركة ياسر عرفات؟ (2)

في اللحظة التي كانت فيها هزيمة 1967 تجرف كل شيء، الأخضر واليابس كما يقال، في اللحظة التي كانت فيها الأنظمة العربية تجد نفسها مهددة بهبة شعبية، في اللحظة التي لم تعد فيها فلسطين ورقة توت لأحد، كان عرفات و"مقاومته" هنا ليقدما خدماتهما لهذه الأنظمة الدكتاتورية، لهؤلاء الرؤساء الضعفاء والمنهزمين. كنا نقول في ذلك الوقت إن الشعب الفلسطيني قد استعاد مصيره في يده، وإنها نهاية الوصاية العربية، إلا أن الوقائع قد أثبتت على أن هذه الأنظمة الضعيفة والمنهزمة كانت تبحث قبل كل شيء عن التخلص من العبء الذي كانت تمثله فلسطين، وعن ترك المسئولية للفلسطينيين كي يديروا هم قضيتهم على الطريق المؤدي، ثلاثين سنة فيما بعد، إلى دبابات شارون، إلى المستعمرات، وإلى جدار العار. أن يدير الفلسطينيون هم قضيتهم لم يكن يعني بأي حال من الأحوال أن يأخذوا مصيرهم في يدهم من أجل تحرير وطنهم، وإنما بالأحرى من أجل التخلي عن حقوقهم في هذا الوطن واحدا واحدا، وخاصة من أجل أن تبقى الأنظمة الضعيفة والمنهزمة في مكانها لتنشغل بشعوبها: لتركيعها وخنق كل طموح إلى الحرية لديها، إلى الديمقراطية، وإلى الكرامة.

وإذا كان دور عرفات في نهاية المطاف هو نفسه دور الدكتاتوريين العرب، فالوسائل التي يمتلكها الواحد والآخرون كانت مختلفة تماما. قبل شن ما يدعى بالحرب الأهلية الكاذبة الأردنية-الفلسطينية عام 1970، كان على عرفات أن يضمن صعوده على ثلاث جبهات: الجبهة العسكرية والجبهة السياسية والجبهة المالية. على الجبهة العسكرية، لم يكن ذلك يمثل أي مشكل، فعرفات فرض نفسه منذ البداية كقائد للمقاومة، إذن كقائد لكل فصائل حركة الفدائيين، لكل الاتجاهات على حد سواء. حبش، حواتمة، نجاب أو الآخرون لم يكونوا سوى حجارة شطرنج يحركها عرفات كما يشاء. التجمعات الصغيرة التي كانت تحاول القيام بعمليات من خارج دائرة نفوذه كانت تُقَوّمُ بالقوة أو كانت تجري تصفيتها. شخص النحس هذا كان يعلم أحسن من أي كان أنه في وضع من الحرب الدائمة والتناحرات الأخوية سيكون له احتكار السلطة العسكرية مهما كلف ذلك من ثمن. وفيما بعد، عين نفسه "القائد العام"، بأي حق؟ ولماذا لم يعين في هذا المنصب حبش أو حواتمة أو حتى شخصا مجهولا المهم أن يكون كفؤا؟ لماذا لم تشكل قيادة موحدة تحت رعاية كل قادة المقاومة؟ لا، كان هو، عرفات، الذي فرض نفسه تحت ذريعة أن فتح حركته كانت الأقوى. ولكن ما الذي جعل من حركته الأقوى؟ أنا لا أتكلم عن عدد الذين انخرطوا في فتح وإنما عن قوتها العسكرية: من أين كان يأتي كل ذلك السلاح الذي أقام الفرق بينها وبين باقي الفصائل؟ ولماذا كل هذا السلاح كان يذهب لياسر عرقات وليس لقائد آخر من القادة الحقيقيين أو القادة الوهميين الذين هم أكثر من البطيخ المعروض للبيع في ساحة الجامع الكبير؟ كل شيء كان معدا سلفا ليضع عرفات يده الواطئة على المقاومة، وبكلام آخر ليستأثر بالسلطة العسكرية. حال كوبا من هذه الناحية مقلقة جدا: كانت السلطة موزعة بين قادة الثورة، ولم يعلن كاسترو نفسه دكتاتور كوبا إلا بعد موت تشي غيفارا. وعلى الرغم من كل ما قيل بخصوص موت غيفارا التراجيدي، أجدني أصيغ السؤال التالي: كي يحقق كاسترو هدفه في أن يصبح السيد المطلق لجزيرة الحب هل يكون هو من وراء مصرع رفيق سلاحه؟ سؤال يعود إلى الكوبيين الجواب عليه. أما عرفات، فقد فرض نفسه بالقوة كقائد مطلق منذ الساعات الأولى للثورة.

بعد أن اطمأن إلى وضع يده على السلطة العسكرية، سيستولي خاصة على السلطة السياسية ليكون صعوده على رأس منظمة التحرير ومؤسساتها. وكان يمكنه تحقيق ذلك بعون فتح كحركة يشكلها أناس أتوا من شرائح اجتماعية مختلفة في منتصف الطريق بين عُمرين وعالمين وفكرين "رجعيون" في معظمهم همهم الوحيد أن يكسبوا ثقة رئيسهم، عرفات، ليستطيعوا ملء جيوبهم. ومع ذلك، لم تكن حنفيات البترول آنذاك مفتوحة بعد، والمساومات مع السعوديين لم تكن تتم أبدا دون الضوء الأخضر للأمريكان الذين كانوا يفضلون مثلهم مثل الإسرائيليين تطبيق استراتيجية "wait and see" (لننتظر ولنر ما يجري). لكن أناس فتح هؤلاء كان لهم حدس "ثوري" بخصوص النقود وسلطتها في المستقبل. وهكذا بصفته يمثل الأغلبية في المقاومة بالنسبة لباقي الفصائل، ستكون لعرفات الأغلبية في منظمة التحرير بفضل دعم الأنظمة العربية التي كانت تفضله على حبش (الجبهة الشعبية) أو على حواتمة (الجبهة الديمقراطية). كان طموح حبش وحواتمة قلب كل الأنظمة العربية الدموية كشرط أول لتحرير فلسطين، وكان عرفات يعارض ذلك، فاغتصب السلطة السياسية، لكن النظام الأردني ظل يلوح بالخطر الذي يهدده وبعدم إمكانية التعايش بين سلطتين سياسيتين في بلد واحد. والسيادة؟ إلى أيٍ من هاتين السلطتين ستتبع؟ ومع ذلك، كان النظام الأردني نفسه، تحت رعاية الملك حسين ودعم عبد الناصر وكل الأنطمة العربية المنهزمة، الذي عمل على أن تمضي زمام منظمة التحرير من يدي الشقيري إلى يدي عرفات.

في الواقع، تَذَرَّعَ الملك حسين بتنافس فَرْضي بين السلطتين بخصوص السيادة، ولكن وراء هذا التنافس الوهمي كانت تختبئ الأهداف الحقيقية لكلا الطرفين، والتي هي تقوية النظام الأردني وإضعاف المقاومة. في ذلك الوقت، كانت الشائعات تقول إن "الملك الصغير" لم يكن لديه الخيار، وبالنسبة له، كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن العمل بها من أجل إرضاء جمهو ر فلسطيني في غالبيته. لم يكن النظام الهاشمي شعبيا أبدا لأنه لا يعرف سوى سياسة واحدة يجيب بها على التذمر الشعبي: القمع. وهو لم يزل في الحكم فقط لأنه يقمع بالحديد والنار كل حركة احتجاج. هكذا صنع المستعمرون الإنجليز هذا النظام، وهو لن يتغير أبدا إلا بتغيير جذري يمس الأسرة الملكية نفسها. هذا ما كانت تريده فصائل الثورة المدعوة باليسارية: قلب النظام الهاشمي والانتصار لسلطة واحدة هي سلطة المقاومة. كان عرفات المعارض الوحيد لهذا المشروع القابل للتنفيذ مع هذا بالنظر إلى اندحار الجيش الأردني غداة حرب الأيام الستة. كان هدفه تقوية النظام الأردني في مواجهة استياء شعبه وحركة الفدائيين التي تحرز تفوقا على المحتلين الإسرائيليين أكثر فأكثر وذلك بإجراء عمليات شجاعة في الطرف الآخر من نهر الأردن.

وكان سبتمبر الأسود تتويجا لسلسلة من "الأخطاء الإستراتيجية" كتحويل الطائرات ورفع الكتب الحمراء في المساجد وأفعال اخرى قام بها جهاز المخابرات الأردني والتي أكثرها غرابة إطلاق النار على سيارة الملك. سبتمبر لم يكن أبدا أسود لصعود عرفات، بل على العكس. كانت تختفي وراء هجوم الجيش الأردني أهداف واضحة: إيقاف الأعمال الفدائية ضد إسرائيل، إضعاف حركة المقاومة على الصعيد العسكري، ولكن على الخصوص تقوية النظام الأردني. ومن المعارك خرج رجلان منتصران: ياسر عرفات والملك حسين، الأول بإفقار حركة الفدائيين عسكريا وبفرض نفسه كقائد سياسي بالأحرى على رأس منظمة التحرير التي سيجري وضعها على خط الاستسلام فيما بعد، والثاني بقمع كل أماني التحرير والحرية أماني الحياة وبإتمام المهمة التي صعد على العرش من أجلها: ضمان أمن إسرائيل.

بعد جرش، حيث انسحب قسم من الفدائيين وأُحرقوا أحياء بنار الجيش الأردني، عادت أكبر جبهة مع الأراضي المحتلة إلى "الهدوء". لم يبدِ الإسرائيليون بعد رضاهم لأنهم ما زالوا غير مقبولين كهوية عرقية ودينية ودَوْلية من طرف الشعوب الأخرى للمنطقة. لم تكن أحداث عمان لهم سوى بداية، وقد أذكت حرب البدو كما كنا نقول في ذلك الوقت حين الحديث عن قاطعي الأصابع هؤلاء القادمين من الصحراء، أذكت الأحقاد بين أردنيين وفلسطينيين وعبأت كل انتباههم. ومع ذلك كان عرفات قد أثبت أنه قادر على الذهاب أبعد في تحقيق الخطة الأساسية التي كانت تصفية القضية الفلسطينية وتهيئة الطريق من أجل أن توسع إسرائيل هيمنتها على كل المنطقة. أعدت السي آي إيه والموساد له الطريق بوضع أسد على رأس السلطة في سوريا والسادات في مصر. اليوم، بعد ثلاثٍ وثلاثين سنة من موت عبد الناصر، وبالنظر إلى الوضع الحرج للمنطقة، أجد معقولة جدا الفرضية التي تقول بتسميم عبد الناصر على يد طبيبه عميل المخابرات الإسرائيلية، فكان العام 1970 أكثر أهمية على الصعيد السياسي من العام 1967، كان عاما حاسما، كان الأمريكان والإسرائيليون يحركون معا الدمى الحاكمة في مسرح العرائس، أسد "المزايد" على الوطنية مقابل السادات بطل "الانفتاح" على الغرب، وعرفات في الوسط. لم يكن لا الواحد ولا الآخر يخطو خطوة واحدة دون موافقته ودعمه. حقا كان هناك من يحركه، ولكنه كان يحرك بدوره الاثنين الآخرين، كان جزءا لا يتجزأ من جبهة أعرض جبهة الإسرائيليين والأمريكيين.

بعد عمان، كان حضوره في بيروت أكثر من حاسم، ودوره أكثر من فاعل، هذا الدور الذي راح يكبر في اللحظة التي بدأت فيها السعودية وبلدان النفظ الأخرى بصب ملايين الدولارات على "رجلها"، فالبيت الأبيض قد أشعل ضوءه الأخضر لأجل برجزة الثورة وإفساد كل ذي قابل للفساد. وعندما اختلس عرفات كل أموال "الدعم" أصبحت بين يديه السلطات الثلاث: السلطة العسكرية والسلطة السياسية والسلطة المالية، وغدا دكتاتور بأتم معنى الكلمة.


ترجمة الدكتورة بريجيت بوردو – مونتريال


أفنان القاسم: دفاعا عن الشعب الفلسطيني، كيف ولماذا تمت فبركة ياسر عرفات؟، دار لارماطان، باريس 2004، ص ص 19 – 24.


www.parisjerusalem.net

ramus105@yahoo.fr

CONVERSATION

0 comments: