في ما خص مرونة السياسات الخارجية الهندية/ د. عبدالله المدني

يـــُعتقد على نطاق واسع أن ما تحظى به الهند اليوم من حضور على ساحة السياسية الدولية، وتسابق القوى العالمية والإقليمية المؤثرة على كسب ودها وتعاونها، إنما يعود في أحد أسبابه إلى ما تتمتع به السياسات الخارجية لهذه الدولة من مرونة وقدرة على التكيف مع المتغيرات أيا كان شكلها.
وقد رأينا ولمسنا ذلك بجلاء وقت ظهور تباشير تفكك حليفتها الإستراتيجية الأولى، أي الإتحاد السوفيتي، في مطلع تسعينات القرن المنصرم. فبينما كانت دول كثيرة من تلك الدائرة في فلك موسكو في حالة قلق وإنتظار وترقب لما سوف تسفر عنه متغيرات تلك الحقبة، ممنية النفس ببقاء الإتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي والثنائية القطبية، كانت الهند قد حزمت أمرها وإنتقلت بسلاسة وحرفية من حليف لموسكو إلى حليف لواشنطون، متخذة من الأخيرة شريكا إقتصاديا وإستراتيجيا، مع ترك الباب مفتوحا أمام الدولة الوريثة للسوفييت أي روسيا الإتحادية لإستمرار التعاون في حال رغبتها في ذلك.
على أن المرونة التي نتحدث عنها في علاقات الهند الخارجية مع الآخر لم يكن أمرا طارئا أو وليدة اللحظة، وإنما كانت ضمن صميم السياسات الخارجية التي رسمها وصاغها أول رؤساء الحكومات الهندية (جواهر لال نهرو) قبل إعلان إستقلال الهند رسميا. فبالعودة إلى الوثائق التاريخية لسنوات ما قبل الإستقلال، وما سطره نهرو بنفسه من أفكار ومرئيات في مذكراته الشخصية وخطبه السياسية ورسائله إلى إبنته الوحيدة "أنديرا غاندي" من داخل المعتقل، نكتشف أن نهرو كان مستوعبا لظروف الهند الداخلية والخارجية وما يحيط بطموحاتها من تعقيدات لجهة لعب دور عالمي يتناسب مع موقعها الإستراتيجي، ومواردها المتنوعة، وحضارتها القديمة، وكفاحها الطويل ضد الإستعمار البريطاني، ناهيك عن إلمامه بالأخطار المحدقة ببلاده من قوى الإستعمار الجديد وأطماع وتهديدات جارتيها الصينية والباكستانية. وبالتالي لا يمكن فهم مبادرته المبكرة لعقد أول قمة أفروآسيوية في "باندونغ" الإندونيسية في عام 1955، وما تلا ذلك في عام 1960 من وقوفه وراء فكرة "حركة عدم الإنحياز" ومبدأ "الحياد الإيجابي" إلا في هذا السياق.
وبعبارة أخرى، يمكن القول أن نهرو رأى أن مبدأ عدم الإنحياز والحياد الإيجابي سوف يعطي لبلاده موقعا لجهة التأثير في شئون العالم وشجونه، ويحول (شكليا على الأقل) دون إستفراد القوتين العظميين الإمريكية والسوفيتية بمصير العالم، ويخلق نوعا من توازن القوة في شبه القارة الهندية لصالح بلاده، ويوفر للهند فرصة تلقي المعونات الإقتصادية والتنموية من كلا قطبي الحرب الباردة في الوقت نفسه.
وقد تلازمت سياسات نهرو هذه بإيمانه العميق بدور منظمة الأمم المتحدة كمحفل عالمي يذود عن كفاح الشعوب المستضعفة، ويرسخ مباديء العدالة والسلم في العالم بأسره دون تمييز، ويجد الحلول الملائمة للقضايا الدولية دون إنحياز. لكن تلك السياسات النهروية المبنية على الأخلاقيات والتمنيات والقدرة على التحرك هنا وهناك من أجل التأثير، ما كانت لتصمد في عالم تسوده الإستقطابات والأحلاف العسكرية وسباق التسلح والتنابذ الإيديولوجي المرير. لذا قيل أن أحد أسباب وفاة الرجل في عام 1964 هو إصابته بالإحباط من فشل سياساته الخارجية، ومن هزيمة بلاده عسكريا أمام الصين في الحرب الحدودية الهندية – الصينية القصيرة في عام 1962 والتي كشفت له كيف أن أقرب حلفاء الهند الإقليميين لم يهبوا لنجدتها إلا لفظيا، فيما لم تحرك موسكو أو واشنطون ساكنا رغم خلافاتهما الإيديولوجية العميقة مع بكين.
وحينما تولت إبنته "أنديرا غاندي" مقاليد السلطة في نيودلهي من بعد فترة قصيرة شغل فيها منصب رئاسة الحكومة المخضرم "لال بهادور شاستري"، وإندلعت أثناءها الحرب الهندية – الباكستانية الثانية، إلتزمت السيدة غاندي بسياسات خارجية جديدة قوامها الواقعية والمصلحة الوطنية العليا وليس المباديء الأخلاقية، وركيزتها الأولى الإقتصاد وليس الإيديولوجيا، الأمر الذي أعتبره البعض دليلا آخر على مرونة السياسات الخارجية الهندية وقدرتها على التكيف مع المستجدات. تلك المستجدات التي تمثلت وقتذاك في فقدان حركة عدم الإنحياز لثقلها بوفاة أبرز رموزها (نهرو) أو طردهم من السلطة (كما حدث لنكروما في غانا، وأونو في بورما، وسيهانوك في كمبوديا، وسوكارنو في إندونيسيا)، أو تضاؤل تأثيرهم الإقليمي (كما حدث لعبدالناصر في أعقاب حرب حزيران 1967 مثلا)، ناهيك عما حدث على الصعيد الإقتصادي بإرتفاع أسعار النفط وبروز منتجيه كلاعبين لا يمكن إغفالهم.
وقد ورث إبن غاندي، رئيس الحكومة الأسبق "راجيف غاندي" تلك السياسات الخارجية الواقعية من والدته فسار على دربها موثقا روابط بلاده شرقا وغربا وجنوبا وشمالا دون أدنى إعتبار للعوامل الأيديولوجية. وتعتبر جولته في عام 1988 إلى الصين واليابان وأستراليا ودول جنوب شرق آسيا بمثابة البذرة الأولى لما سوف يـُعرف في عهد خليفته "ناراسيمها راو" بـ "سياسة التوجه شرقا"، والتي إستعارتها لاحقا دول أخرى كدول مجلس التعاون الخليجي مثلا.
وهذه السياسة التي تعني بإيجاز توثيق الصلات والروابط بصورة منهجية وعقد شراكات إستراتيجية بعيدة المدي في مختلف الحقول مع مجموعة "آسيان" الجنوب شرق آسيوية وغيرها من دول الشرق الأقصى مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين، كانت في صدارة إهتمامات "ناراسيمها راو" الذي صاغ سياسات الهند الخارجية في مرحلة ما بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي ومعسكره الشرقي، وقاد بلاده، بالتعاون مع وزير إقتصاده وقتذاك/ رئيس الحكومة الحالية الدكتور "مانموهان سينغ" إلى الإقتصاد الحر بدلا من النهج الإشتراكي الذي قيـــّد على مدى عقود من الزمن طموحات ومواهب الشعب الهندي الخلاقة.
والحقيقة أن سياسة "التوجه شرقا" لا تزال في صلب إهتمامات صانع القرار الهندي، وذلك من منطلق أن تكتل "آسيان" يمثل ثقلا إقتصاديا لا يمكن الإستهانة به، ناهيك عن أن دول جنوب شرق آسيا، ولاسيما أقطار الهند الصينية التي إنضمت إلى التكتل بعد إطلاقه بسنوات، لا تزال زاخرة بفرص الإستثمار والأسواق الواسعة والقدرات الشرائية العالية، وغير ذلك من العوامل التي يمكن للهند إستغلالها بما تمتلكه اليوم من إمكانيات إقتصادية وإستثمارية وعلمية وتكنولوجية. ومن هنا جاءت مبادرة التعاون الهندية المسماة "ميكونغ – غانغ"، (في إشارة إلى أكبر نهرين يجريان في الهند الصينية والهند على التوالي) والتي رحبت بها منظومة آسيان ترحيبا حارا.
ويعتقد صانع القرار الهندي أن نجاح الهند في دول منظومة آسيان أمر مؤكد ليس فقط بسبب آسيوية الهند، وإنما أيضا بسبب روابطها التاريخية والثقافية والإنسانية الموغلة في القدم مع هذه الأمم وشعوبها، وهو ما لا يتوفر لدول أخرى مثل الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي وروسيا الإتحادية وأستراليا.
والحال أنه مع بزوغ الهند كقوة صاعدة سياسيا وإقتصاديا وعسكريا وعلميا وتكنولوجيا في الألفية الثالثة، فإن لدول منظومة آسيان مصلحة مؤكدة في التعاون مع الهند في مختلف المجالات من أجل نمو إقتصادي أسرع، بل وأيضا من أجل أهداف أخرى لا تقل أهمية مثل ضمان الأمن والإستقرار في المحيط الهندي وإمتداداته البحرية، وإشاعة الديمقراطية والتعددية، وإحترام حقوق الإنسان. غير أن من قد يقف في الطريق هم الصينيون الذين لا يرغبون أن يشاركهم أحدا النفوذ والتأثير في منطقة جنوب شرق آسيا، خصوصا مع وجود كتل بشرية ضخمة في المنطقة من ذوي الأصول الصينية.
د. عبدالله المدني
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المقال: أغسطس 2011
الإيميل: elmadani@batelco.com.bh

CONVERSATION

0 comments: