بات من الواضح للعيان أن مفردات الحالة السورية تتلخص بنظام – كغيره من أنظمة الاستبداد في المنطقة- يدير البلاد وفق منهج أمني، أقام دولة أمنية حديدية .. وأدار البلاد بسلطوية مفرطة .. حتى تصدرت الدولة السورية قائمة الدول العربية التي تصادر الحريات وتنتهك حقوق الإنسان وتمنع الأحزاب السياسية المعارضة من التنظيم والعمل الشرعيين ، وتضيق على المجتمع المدني .. فكان من الطبيعي أن تؤدي مثل هذه الإدارة الحديدية وغياب الحرية إلى الاستبداد وسيطرة الفساد المالي والإداري .. بل تعاظم في البطش و تكميم الأفواه.. والاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام ... إلى أن نصب من ذات الحاكم "إلهاً" يعبد يسجد له ويسبح بحمده ..!!
وحين بدأت مؤشرات الاحتقان والتوتر الاجتماعي بالظهور .. تلقاها النظام باستعلاء واستصغار .. مما أدى إلى ارتفاع منسوب التوتر وتعاظم السخط واتسعت دائرة الناقمين .. وبدلا ًمن التوقف والتدبر والحكمة في المعالجة كان التحدي بالمضي في تهور متواصل.. وركوب حماقة الطغيان إلى مداه الأبعد .. حتى وصلت الأمور إلى ما هي عليه من حالة انحباس حاد.. ووضع سياسي متشنج ..
نحن اليوم أمام نظام يعاني من مركب حقد ثأري مرعب.. جعل عنوانه الاستراتيجي " أنا أو الفوضى ".. وحتى يمنع الفوضى لا مانع لدية من بحار من الدماء .. ولا مانع من تنفيذ سلسلة من المجازر والإبادة الجماعية المنهجية .. دون تمييز - في القتل والاستهداف- بين رجل وامرأة أو طفل.. و دون حرمة لشيء.. فلا حرمة لمسجد أو مستشفى .. ولا حرمة لبيت أو مدرسة .. ولا مانع بين الفينة والأخرى- ومن قبيل التنويع - من التسويف والمراوغة وشراء الوقت وإطلاق بعض وعود التنفيس .. ولو أدى ذلك إلى الوقوع المتكرر في حالة الانفصام بين معسول القول .. ووحشية السلوك .. !!
إن نظاماً يعاني من كل هذه التشوهات .. من الطبيعي أن تأتي ردود أفعاله وأقواله ومواقفه على ذات الشاكلة من التشوه والارتباك .. ومن هذه التشوهات نكتفي بالإشارات التالية :
1. حين اعترف رأس النظام بـ"الأزمة".. قام بإطلاق وعود بالإصلاح وأعلن عن إصلاحات في مجالات محددة.. ولكنه كان يقدم هذه الإصلاحات باليمنى .. لينتزعها - في الوقت نفسه - باليسرى .. فمثلاً :
• حين أعلن رفع حالة الطوارئ؛ قام بعدها بتوجيه الجيش لاجتياح المدن السورية الواحدة تلو الأخرى..
• وحين أعلن عن إطلاق سراح المعتقلين .. استتبعها بحركة اعتقالات واسعة النطاق حتى ضاقت السجون بعشرات الآلاف من الثوار..
• وحين أعلن عن قانون الأحزاب السياسية.. ظل مصراً على الإبقاء على المادة الثامنة من الدستور التي تنصب "حزب البعث" قائداً للدولة والمجتمع ..
• وحين أطلق الحوار مع المعارضة .. أصر على الإبقاء على قانون يحكم بالإعدام على منتسبي جماعة الإخوان المسلمين ..
وهكذا .. حتى فقد الشعب ثقته بكل وعود الإصلاح .. واعتبرها كاذبة هدفها التنفيس وشراء الوقت ..
2. عندما اعترف النظام بالانتفاضة الشعبية ووصف مطالب المنتفضين بـ" المحقة والمشروعة.. استتبع هذا الاعتراف بتنصنيف المنتفضين إلى ثلاث فئات هم : أصحاب الحاجات المعيشية .. وفئة العملاء والمخربين والمندسين الذين ينفذون أجندة خارجية لضرب النظام الممانع وهؤلاء ينتشرون على امتداد الأرض السورية يعيثون فيها فساداً (حتى تجاوز عديدهم ال" 65 ألفا" .. وهؤلاء مزودون بأسلحة ثقيلة ومتطورة وسيارات دفع رباعي ووسائل اتصال حديثة) .. وفئة ثالثة هي الأصوليون والإرهابيون والتكفيريون ..
ويبدو أن الهدف من هذا التصنيف كان لتبرير كل ما تلاه من قمع وحشي واجتياحات عسكرية للمدن السورية الواحدة تلو الأخرى بالدبابات والمصفحات والمدرعات وكتائب القناصة والشبيحة .... وتبرير قيام الدبابات بفتح نيرانها على الجميع [ لا تستثني منهم أحداً .. حتى حافلات أطفال المدارس - أطفال الرستن مثالاً- ]..
وفي مرحلة تصعيدية تالية بدأ النظام باستخدام الطائرات العمودية في قتل المتظاهرين! .. ثم تطور الأمر إلى حد استخدام البوارج البحرية لقصف المخيمات والأحياء والمدنيين..
إن هذه الاستهدافات تشير إلى أن النظام السوري اختار الحل العسكري في مواجهة الثورة .. والزج القسري بها نحو [ "النموذج القذافي" .. ولا أقول "الليبي"] !!" وذلك على الرغم من التأكيدات المتواصلة للثوار وتنسيقياتهم بعدم تكرار "التجربة القذافية" .. والتأكيد على تمسكهم بسلمية الثورة.. وتعهدهم بعدم رفع حجر بوجه النظام وآلته الحربية .. !!
3. الإصرار على أداء إعلامي بائس .. إعلام إنكاري تبريري ما زال يصر على إلغاء الآخر و تجريم الاختلاف .. وتزييف الحقائق ..وتجميل النظام ... وتسويغ الممارسات .. والتغطية على الانتهاكات ..والمبالغة في تقدير فكرة "المؤامرة" .. إعلام حافل بالعناوين الملفقة .. إعلام تتدنى فيه لغةِ الحوارِ الى أدنى مستوياتها الأخلاقية .. !!
4. تحريك الفتن تحت عناوين مختلفة ولعل من أخطرها اللعب على وتر الطائفية .. في حين أن النظام نفسه هو الذي عمل ويعمل وفق نظام المحاصصة الطائفية والمناطقية والإثنية في انتهاك صريح للدستور الذي يحرم هذه المحاصصة .. ولعل المشهد الإعلامي الرسمي، يحتشد بالطروحات المريبة التي يروج لها أنصار النظام والتي تدور حول الاستهداف الطائفي واتهام الأصوليين بما يجري في البلد !!
5. الإصرار على أن ما يجري في سوريا من ثورة من أجل الحرية إنما هي بفعل تآمر خارجي يستهدف دور سوريا في الممانعة والمقاومة .. ويستهدف تقسيم البلاد وتفكيك وحدتها ..
صحيح أن سوريا- وكل الأمة - تتعرض بالفعل لمؤامرة دولية حقيقية - ولكن ربط هذا التآمر بالانتفاضة الشعبية.. ما هو إلا محاولة بائسة لتشويه هذه الثورة المباركة ..
ولو سلمنا جدلاً بدور النظام السوري الممانع والمقاوم .. فإن هذا التسليم يستببع تساؤلات إشكالية منها :
• أي معركة تحرير يمكن أن يخوضها نظام يقتل شعبه بكل وحشية ؟؟
• وهل يستطيع هذا النظام أن يخوض بشعب جله من المندسين والعملاء والسلفيين والعصابات المسلحة والمخربين والمتآمرين معركته التحريرية ؟؟
• وكيف لشعب تم تجريده من جميع عناصر إنسانيته و كرامته - وبشكل منهجي منظم - أن يخوض معركة تحرير الوطن ؟؟ وعن أي وطن يمكن أن يدافع مثل هذا الشعب ؟؟
0 comments:
إرسال تعليق