الديـــن لله .. والــوطــن للجميـــع/ أنطــوني ولســن

يوم الثلاثاء الرابع من يونيو / حزيران عام 1996 فاجأتنا الزميلة ماجدة عبود صعب منسقة البرنامج العربي لأذاعة ألـ ( إس بي إس ) بالحديث عن التعدد الديني أو العقائدي في بلد يتخذ من التعددية الثقافية نمطا للحياة . وذلك من خلال البرنامج الجديد الذي تقدمه تحت عنوان " البث المباشر " والذي يعتبر بحق من أقوى البرامج التي تعطي للمستمع العربي فرصة التعبير عن نفسه والمشاركة في كل مايدور حوله .
أقول قد عرضت هذا الموضوع للمناقشة عبر الأثير . ولأهميته في رأيي ، لأن الدين يشكل في بلادنا الأم عصب الحياة . وهو العمود الفقري الذي ترتكز عليه المجتمعات العربية والدول النامية . وهو المدخل الرئيسي للمستعمر الغربي والإسرائيلي لتفتيت البنية الأساسية لمجتمعاتنا عن طريق بذر بذور الفتنة الدينية بين أبناء دين واحد ، أو بين أبناء الأديان الأخرى المتواجدة في بلادنا . وجدت نفسي مشاركا بالقلم في هذا الموضوع .
نغمة فرق تسد وجدت آذانا صاغية واستحسانا بين بعض الناس . فاخذوها من أصحابها وتولوا هم عزفها على آلات وألحان مختلفة . تارة باسم عقيدة أو ملة أو مذهب . وطورا باسم مسلم ومسيحي . يزداد عزف الفرقة ونزداد نحن إنقساما وبعدا عن بعضنا البعض ويحاول كل فريق أن يثبت للأخر أنه الأصلح وأنه الأفضل بالنسبة لهذا المجتمع أو ذاك . وتعيش المجتمعات الفقيرة مطحونة بأسم الدين أو العقيدة أو المذهب . ولم يعد الوطن هو المفديَ والذي من أجله كُتب التاريخ بدماء الشهداء .
الدين هو أسلوب حياة كما قال أحد المستمعين . في الوقت نفسه دحض مقولة الدين لله والوطن للجميع . وقال أيضا أن للأوطان أديانا هي أديان الغالبية العظمى من أبناء تلك البلدان .
الدين أسلوب حياة .. نعم .. هذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان . الدين هو الحد الفاصل بين الظلمة والنور . والدين هو مقوم تصرفات الإنسان . لذا أوجد الله الأديان وأوحى بها للإنسان عن طريق رسله وأنبيائه ليعلم الإنسان طرق الحياة ويتخذ لنفسه اسلوبا قويما صحيحا يتبعه ويميزه .
لا شك أن تصرفات الإنسان المتدين تختلف إختلافا بينا عن الإنسان غير المتدين . المتدين يخاف الله ويحب خلق الله دون تميز بينهم بسبب لون أو جنس أو دين أو عقيدة أو مذهب . فإذا ميز متدين نفسه عن الآخرين لأنه متدين . ميزته الوحيدة أنه يعرف أن الله محبة لذا يحب كل الناس .وأن مخافة الله فيما يعمل واجبة ومقدسة . لذا لا ينهي عن شيء ويفعل مثله . لا يحلل لنفسه ما يُحِرمهُ على غيره . يكون المتدين سمحا بشوشا مبتسما . هاديء الطباع ومحسنا .. يؤمن بإله واحد خالق الكل ، وإرضاء هذا الإله هو في البشرية ومساعدة المحتاج والأخذ بيد الثكالى والأرامل والمحتاجين دون تميز أو تفرقة .
هذا في إعتقادي من أن الدين أسلوب حياة .فإذا كانت إجابة المستمع تتفق مع هذا القول فلا أحد يختلف معه . لأننا جميعا لو إتخذنا من أدياننا أسلوب حياة . سيصلح حالنا وتستقيم أمورنا ونضيع على المستعمر كل خططه ومحاولاته في وضع بذور الفتنة بيننا .
أما إذا كان الدين أسلوب حياة يُفرض على كل الناس بالقوة والجبر ، فهنا أتساءل أي دين سنفرضه أسلوب حياة ؟ ونكون بهذا قد دخلنا في دائرة الأقلال من شأن ما جاء على لسان الرسل والأنبياء " لو شاء ربك لوحد الأديان " .. أليس كذلك ؟!!.
أما مقولة الدين لله والوطن للجميع ، فما أشد احتياجنا إليها في هذه الفترة العصيبةالتي تمر بها الأمة العربية والدول الفقيرة النامية . " لكم دينكم وليَ ديني .. لا إكراه في الدين .. لا فضل لعربي على اعجمي إلا بالتقوى " .. والكثير من الأقوال الحكيمة التي تثبت أن الدين والمعتقد لله وحده . لأن في يوم الدينونة سيحاسبنا عز وجل على ما فعلت أيدينا وأنفسنا . وإن كنا تبعنا الهوى والضلالة أو سرنا على السراط المستقيم ، إن كنا قتلنا .. أم مددنا يد الحياة لإنسان بائس محتاج يعيش على أرض وطن واحد دون ما تمييز بسبب دينه أو لونه .
الدين أسلوب حياة .. والدين لله والوطن للجميع يتمم بعضهما البعض . لأنني متدين فبدون شك أسلوب حياتي سيكون بالتقوى . إذا كنت مسيحيا مؤمنا فسأعمل على رفعة وطني وعلى الفداء من أجل وطن واحد يعيش فوق أرضه الجميع .
أما إذا جاء إنسان وقال لي لا .. أنت مسيحي مثلا وأسلوب حياتك الديني لا يهمني وإنه لا مكان لك عندي في مجتمعي .. مجتمع الأكثرية التي لا تعتنق دينك بل تعتنق دينا آخر ، فسأقول له لقد أخطأت يا أخي .. فدينك لم يحرضك ضدي .. وديني حثني على محبتك وبذل الغالي والنفيس من أجل الوطن . وأقول لك أيضا لا يا أخي الوطن في حاجة لكل مواطن مخلص من أجل تقدمه ورقيه . وأقول لك أيضا يا أخي لا تنزلق في المنزلق الذي أعده لك ولنا عدو يعرف تمام المعرفة كيف يجعلنا ندور حول أنفسنا في التداخل بين أدياننا وقضاء أكبر وقت من يومنا نتجادل في أي دين أقوى أو أفضل ، أو أي دين نتبع متناسين أنها إرادة الله .. " لوشاء ربك لوحد الأديان " .. ونضيع ونتأخر ويتقدم غيرنا ونظل نحن متأخرين .
في اللقاء المعجزة الذي تم بين فضيلة الشيخ شعراوي وقداسة البابا شنودة الثالث ، قال قداسته لفضيلة الشيخ ما معناه .. "فلنجعل المحبة بيننا ، وأن هناك رقعة كبيرة بيننا نستطيع أن نتعايش عليها سويا دون الخوض في أشياء لا تخدم الوطن " .
الدين لله والوطن للجميع لا ينفي أبدا أن الأوطان تتبع دين الغالبية من أبنائها . فليس من المعقول أن نقول أن مصر مثلا بلد مسيحي . وليس من المعقول مثلا أن نقول أن أستراليا بلد مسلم . ولكن من المعقول أن نقول أن مصر المسلمة مثلا لكل مواطن فيها الحق في الحياة وتقلد الوظائف حسب كفاءته لا حسب دينه . وأيضا في أستراليا مثلا كل مواطن له حق الحياة الكريمة وتقلد الوظائف حسب كفاءته .. لا حسب دينه . وهنا نجدنا مشدودين إن شئنا أم أبينا إلى مقولة الدين لله والوطن للجميع . فإذا إبتعدنا عن هذا القول ولم نجعله طريق حياة في أوطاننا ، فإننا بعلمنا وبإرادتنا أو دون أن ندري نخدم المستعمر على إعادة لحن فرق تسد الذي يدخل به دائما عن طريق عازفين يُدفع لهم وبسخاء ليظلوا قائمين على عزف نوتة التفرقة بين شعب واحد وأمة واحدة بسبب الدين أو المذهب أو العقيدة أو الجنس أو اللون . ولا نلوم غير أنفسنا إذا تأخرنا وتقدم غيرنا .
كتبت هذا المقال ونشر في جريدة " النهار "اللبنانية الغراء التي تصدر في سيدني بتاريخ 13/ 6 / 1996 ، وأوثقته ضمن كتاب " المغترب " الجزء الثاني الذي اصدرته في عام 1997 ، من صفحة 206 إلى صفحة 210 . وهنا نرى أهمية إصدار الكتب وحفظ ما يمكن حفظه من أعمال أدبية بين طياتها .لأننا قد نحتاج الرجوع إليها يوما ما إذا كانت أحداث ما نعيشه الأن في الوقت الحالي ينطبق عليها ما سبق وكتبناه منذ سنوات عديدة مضت . وهذا ما يجعلني أعيش اللحظة فإن وجدت تشابها بينها وبين ما سبق وكتبت أعيد كتابتها ونشرها لأختلاف القاريء دون شك ، وليتفاعل القاريء مع ما كتبناه ويحاول التواصل معنا في الرأي ، أو يختلف .
مصر الأن في أدق مرحلة مرت بها في العصر الحديث . لم يكن أحد يتصور أن الإرادة الشعبية يمكنها إسقاط وإزالة حكم إستمر لثلاثة عقود فشاخ ونرهل ولم يعد يصلح لإدارة شئون البلاد . فكان على الشعب بشبابه وشباته أن يتحرك ويقوم بمخاطرة أكثر خطرا من تحرك بعضا من وحدات الجيش بقيادة المرحوم اللواء محمد نجيب وكذب المرحوم عبد الحكيم عامر على خاله حيدر باشا أركان حرب القوات المسلحة في ذلك الوقت عندما إستفسر منه عن تحركات وحدات من الجيش ، فأنكر ذلك .
في الخامس والعشرين من شهر يناير / كانون الثاني من هذا العام 2011 تحرك الشباب وأطلق على تحركه بالثورة . فرحنا جميعا كمصريين سواء في مصر أو خارجها بما حدث . زادت فرحتنا عندما شعرنا بيقظة الجيش وتحركه لحماية شباب الثورة حتى تم بالفعل تحقيق مطلبهم برحيل الرئيس السابق محمد حسني مبارك .
سبعة أشهر مضت ومصر غير مستقرة تتقاذفها رياح التغير التي يتضارب بعضها مع بعض ما بين التيارات الدينية والتيارات الليبرالية . سبعة أشهر كادت أن تضيع معالم الثورة التي أطاحت بأغبى حكم حكم مصر منذ توحيدها على يد الملك مينا . سبعة أشهر والتيار الإسلامي المتشددة يصول ويجول دون رقيب أو حسيب . يهدد ويعتدى على الآمنين المسالمين من المسيحيين في مصر دون ما جرم إرتكبوه سوى أنهم مسيحيون وكأن المسيحية باتت وأصبحت جرم يعاقب عليه بيد الإسلاميين المتشددين دون وازع أو ضمير ، ودون رادع من لهم القوة الأن ، الجيش المفروض فيه حماية أبناء الوطن الواحد . يحاكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة من يواجهه بالحقيقة ويعيب عليه تخاذله ، ولا يتحرك ولو تحركا يثبت فيه وجوده ضد من يعبث بأمن وأمان مصر بأسم الدين . ما حدث بنزلة فرج الله بالمنيا يندى له جبين الشرفاء . ومع الأسف يبدو أنه لم يعد في مصر شرفاء . وإلا كانوا وقفوا ضد ما يحدث لفئة هي جزء لا يتجزأ من الشعب المصري منذ الأزل وإلى المنتهي إن أرادت خفافيش الظلام أو لم ترد . فقد فاض الكيل وطفح ويجب على المجلس الأعلى أن يعيد النظر في كل مواقفه والتي لاتختلف عن مواقف الحكم السابق مما يجعلنا نشعر بعدم التغير .
التيارات الإسلامية المتشددة ستأخذ مصر إلى ما لا تحمد عقباه فالعدو متربص ومستعد وبدأ يجس النبض في سيناء ويعرف جيدا مواطن الضعف في مصر والذي يكمن في هذه التيارات .
إرحموا مصر من شر يهدد وحدتها وتماسكوا وأعلموا أن الدين لله والوطن للجميع هو الطريق القويم والصحيح ولا يقلل من شأن دين وآخر.

CONVERSATION

0 comments: