نصرٌ يكتمل بالتَّكامل مع مصر وتونس/ صبحي غندور


في 20 أغسطس من العام 1971، أعلنت مصر وسوريا وليبيا دستور "اتحاد الجمهوريات العربية". وانطلق هذا الإعلان آنذاك من فكرة تكامل هذه الدول الثلاث في إطار اتّحادٍ يُعزّز القدرة على مواجهة إسرائيل، ويؤكّد على ما جاء سابقاً في قرارات القمّة العربية في الخرطوم بأن لا صلح ولا تفاوض مع إسرائيل ولا تفريط في القضية الفلسطينية، وعلى أهمّية العمل من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة وتسخير كافّة الإمكانات والطاقات العربية من أجل ذلك، إضافةً إلى التأكيد على الهويّة العربية المشتركة.

طبعاً، لم تُكتَب الحياة طويلاً لهذه التجربة الاتحادية العربية، خاصّةً بعد حرب أكتوبر 1973 والتي شهدت فعلاً تنسيقاً هاماً وتكاملاً بين مصر وسوريا ودول النفط العربي أدّى إلى انتصار أكتوبر، لكن ما حدث فيما بعد على الجبهة المصرية من اتفاقاتٍ مع إسرائيل، برعايةٍ أميركية، أخرج مصر من دائرة الصراع العربي/الإسرائيلي وحتّى من الجامعة العربية نفسها، وانتهت بذلك تجربة "اتحاد الجمهوريات العربية".

كم هي ماسّةٌ الحاجة الآن لإعلان "اتحاد الجمهوريات الثورية العربية" بعد نجاح شعوب تونس ومصر وليبيا بتغيير أنظمتها، وإن بأساليب وظروف مختلفة. فتونس ومصر وليبيا تربط الآن بينهم وحدة حال ووحدة آمال ووحدة مصالح ووحدة مخاطر ووحدة أرض، إضافةً إلى ما يربط بينهم وبين كلّ العرب من وحدة ثقافة وتاريخ ومستقبل. وهذه الدول الثلاث تحتاج حالياً إلى بعضها البعض لإعادة الأمن والاستقرار على أراضيها بلا تدخّلٍ أجنبيٍّ طامع بالسيطرة على الأوطان والثروات، أو مُهدَّدٍ بوقف مساعدات. وهي أيضاً بلدانٌ تُكمّل بعضها البعض في المسائل الاقتصادية والتنموية، المطلوبة في المرحلة القادمة.

فانتصار الشعب الليبي في ثورته سيكون عند محكٍّ هو كيفيّة التعامل مع تحدّياتٍ تفرض نفسها الآن على ليبيا. فالمخاوف هي كبيرةٌ على وحدة القوى الشعبية الليبية وعلى وحدة الوطن نفسه. والتساؤلات هي عديدةٌ حول كيفيّة بناء مؤسسات الدولة، بعد أربعين عاماً من غياب "دولة المؤسسات"، خاصّةً "المؤسسة العسكرية" التي عليها يتوقّف ضبط الأمن وتحقيق الأمان والاستقرار في عموم ليبيا. ثمَّ الخوف هو أيضاً من انعكاس التنوّع القبلي وتعدّد المدارس الفكرية، وسط الجماعات الليبية المتآلفة الآن، على مستقبل النظام السياسي المنشود. فهاهما مصر وتونس تشهدان غلياناً فكرياً وسياسياً حول موضوعات الدستور والانتخابات ومصادر التشريع وتفاصيله، وهما لم تشهدا الحالة العنفية الطويلة التي سادت في ليبيا، ولم تتفكّك فيهما المؤسسات الأمنية والعسكرية، ولم تسيطر على شوارعهما قوًى عسكرية غير نظامية.

أيضاً، أسئلةٌ كثيرة تطرح الآن نفسها حول مستقبل العلاقة مع "حلف الناتو"، وعن مدى تأثير الغرب مستقبلاً في القرار الوطني الليبي وفي الثروة النفطية وفي الأموال الليبية المحجوزة في الدول الغربية. وهذا أمرٌ يرتبط أيضاً بمصير السياسة الخارجية الليبية، وكيف سيكون عليه موقف الحكم الجديد من إسرائيل والقضية الفلسطينية، ومن مسألة "هُويّة" ليبيا، بعدما أبحر حكم القذافي فيها من "العروبة" إلى "الأفرقة" إلى "العالمية" وصولاً إلى ضياع الهويّة نفسها.

هذه المخاوف والتساؤلات المشروعة عن ليبيا وعن مستقبل الحكم والسياسة فيها، يمكن الحدُّ منها إذا أسرع "المجلس الانتقالي" في طلب المساعدة الأمنية من مصر- قبل أن تبادر دول "حلف الناتو" بفرض نفسها- لإعادة بناء المؤسّسات الأمنية الليبية، ثم إقامة تنسيقٍ وتكاملٍ مع مصر وتونس في العديد من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حيث تشترك الآن هذه الأوطان في الظروف وفي المصالح وفي التواصل الجغرافي والثقافي.

فالمنطقة العربية بحاجةٍ الآن لهذا النموذج "الاتحادي الثوري العربي"، الذي يؤكّد على ضرورة التلازم بين البناء الديمقراطي وبين الهويّة العربية ورفض الهيمنة الأجنبية.

إنّ المنطقة العربية تعيش مرحلةً خطيرة من الاستقطابات الدولية/الإقليمية في ظلّ غيابٍ متواصل لمشروعٍ عربيٍّ مشترَك ولإرادةٍ عربية مشترَكة.

والآن تنتظر المنطقة العربية نتائج التحوّل السياسي الذي يحدث في مصر بعد "ثورة يناير" لمعرفة كيف سيكون عليه الدور المصري في عموم المنطقة، وما مدى تأثيراته المرتَقبة على المشاريع الدولية والإقليمية.

فالأمل بغدٍ أفضل لا يرتبط بوجود ثوراتٍ وحركات تغييرٍ فقط، بل الأساس هو مرسى هذا التغيير ونتائجه. إذ هل الديمقراطية السليمة، القائمة على وحدةٍ وطنية شعبية وعلى ترسيخ الولاء الوطني وعلى الهويّة العربية وعلى التمسّك بوحدة الكيان الوطني، هي البديل لأنظمةٍ دكتاتورية، أم سيكون بديلَها صراعاتٌ أهلية وتقسيماتٌ جغرافية وتدويلٌ أجنبي؟ وما هي ضمانات حدوث التحوّل نحو الديمقراطية السليمة طالما أنّ المجتمعات العربية موبوءة بأمراض التحزّب القبلي والطائفي والمذهبي والإثني؟ وطالما أنّ هناك أيضاً مشاريع فتنة وتقسيم وتدويل لدول المنطقة؟!

هناك بلا شك إيجابياتٌ تحقّقت حتى الآن، لكن مظلّة السلبيات ما زالت تغطّي سماء المنطقة وتحجب شروق شمس التغيير السليم المنشود فيها. فثورتا تونس ومصر اتّسمتا بالأسلوب السلمي وبالطابع الوطني التوحيدي وبغياب مخاطر التقسيم والتدويل، وبالأمل في تغييرٍ سياسي يصبّ في صالح الوطن والعروبة ونهج المقاومة، لا في صالح الأجانب وإسرائيل ونهج الشرذمة، بينما القلق يحيط بانتفاضاتٍ وثوراتٍ عربية في بلدان أخرى حيث بعضها مُهدَّد بخطر التقسيم، والبعض الآخر بخطر التدويل، والكلُّ بمخاطر الحروب الأهلية والتدخّل الأجنبي.

لقد حدثت على الأرض العربية في هذا العام نماذج إيجابية وسلبية: فالسودان خسر جنوبه بعد حربٍ أهلية وتدويلٍ لأزماته وتدخّلٍ أجنبيٍّ سافر في ظلّ عجزٍ رسمي عربي. ثم جاءت ثورتا تونس ومصر لتشعلا الأمل بمستقبلٍ عربيٍّ أفضل، من حيث أسلوب التغيير الذي جرى في هذين البلدين وسلمية التحرك الشعبي والبعد الوطني التوحيدي فيهما. وهاهي الأمَّة العربية تشهد الآن سقوطاً لحكم العقيد القذافي، الذي استمرّ لأربعة عقودٍ سادها الظلم والظلام والاستبداد، ولم يحدث خلالها أي بناءٍ جاد لمؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسة العسكرية. فالمؤسسة العسكرية في كلٍّ من مصر وتونس لعبت دوراً هاماً في إجبار بن علي ومبارك على الاستقالة، كما أنّ دورها الأساس كان، وما زال، هو في حفظ الأمن والاستقرار خلال هذه المرحلة الانتقالية. فما نجح من أسلوبٍ وأهداف في تجربتيْ مصر وتونس لم يُكتَب له بعدُ النجاح في أمكنةٍ عربية أخرى. فالظروف مختلفة، كما هي أيضاً القوى الفاعلة في مصير هذه البلدان الأخرى.

الانتفاضات الشعبية العربية لم تنتظر نضوج الأمور الداخلية في مصر حتّى تبدأ حركتها، وكذلك فعلت القوى الإقليمية والدولية، والتي سبقت أصلاً هذه الانتفاضات بوضع مشاريع وخطط تضمن مصالحها في المنطقة العربية كيفما جاء اتجاه رياح التغيير فيها.

آمال العرب هي على مصر وعلى التكامل معها، لأنّ مصر هي القوّة العربية الأساس في كلّ مواجهة خاضتها الأمَّة العربية على مرِّ التاريخ، ولأنّ المنطقة خضعت دوماً لتأثيرات الدور المصري، إيجاباً كان هذا الدور أم سلباً. لكن التاريخ يؤكّد أيضاً أنّ أمن مصر هو من أمن العرب، وأنّ استقرارها وتقدّمها مرهونان أيضاً بما يحدث في جوارها العربي.

CONVERSATION

0 comments: