رحم الله الرافعي، فقد كتب إليه ذات مرة، تلميذ يسأله عن الحب، أحلال هو أم حرام؟! فرد عليه الرافعي قائلاً: يا بني..! إن التلميذ الذي يعشق ويذهب يسأل عن الحب، إما أن يكون فاجراً، فهو في لعنة الله والملائكة، وإما أن يكون خائباً، فهو في لعنة أبيه وأمه، وإما أن يكون مهملاً، فهو في لعنة الكتب والكراريس، وإن استشارني زدته لعنتي أنا أيضاً.
ورحم الله سلامة القس، فقد خلا ذات يوم بحبيبته سلامة، فقالت له: والله إني أحبك، فقال لها: وأنا والله إني أحبك، فقالت له: والله إني أشتهي أن أضع فمي على فمك،.. فقال لها: والله إني لأشتهي أن أضع فمي على فمك!. فقالت له: فما بالك لا تفعل ، ونحن في خلوة، ولا يرانا أحد؟! فقال لها: يا سلامة! "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين".
ورحم الله الفاروق عمر بن الخطاب، فقد سمع عن رجل مطلاق "كثير الطلاق"، كان يتزوج المرأة، فلا يصبر عليها حتى يطلقها، فأرسل إليه عمر، وسأله عن أسباب فعلته، وكيف أنه فضح حرائر المسلمين؟! فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! إني أتزوج المرأة فاستحلفها بالله ثلاثة إن كانت تحبني، فتقول لي لا، فأطلقها، لأن نفسي تأبى أن أعيش مع زوجة هي غير راغبة في، أو لا تحبني. فأرسل معه عمر رجلاً من خاصته يستطلع الأمر، فرأى الرجل يقف على باب داره، وينادي زوجته: يا فلانة! أستحلفك بالله ثلاثة، أتحبينني؟ فقالت المرأة: لا والله . فقال لها الرجل: اذهبي فأنت طالق ! فأرسل إليها عمر وسألها: يا هذه! ما الذي حملك على أن تقولي لزوجك لا أحبك؟! فقالت المرأة: يا أمير المؤمنين، استحلفني بالله ثلاثة، أأكذب وأنا من المسلمين؟! فقال لها عمر: اكذبي، اكذبي ، فقليل من بيوت المسلمين من تقوم على الحب.
خطرت لي هذه المواقف، وأنا أتوقف أمام محطة فضائية، يتزاحم عليها التلاميذ والشباب من الجنسين، للاستماع إلى مذيع يقرأ بعد منتصف الليل، أشعاراً مختلفة، بطريقة مختلفة، هي أقرب ما تكون إلى البكائيات، وقد أطلق هذا المذيع على برنامجه اسم "طوق الياسمين" أسوة بكتاب "طوق الحمامة" للإمام ابن حزم الأندلسي، إمام العاشقين، فخيل للمذيع أنه بمقدوره أن يكون ابن حزم الآخر، في القرن الحادي والعشرين، فينصب نفسه مفتياً للمحبين. ويتلقى هذا المذيع سيلاً من الأسئلة، عن أشكال الحب والغرام، وألوان العشق والهيام، التي يبعث بها الشباب عبر الرسائل الهاتفية، والبريد الإلكتروني، والفاكس، فيرد عليها بمزيج غريب من النعومة، والخشونة، والخدران، والذبول، فيؤيد ويعارض، وينصح ويقرر، ويصف العلاج وكأنه الطبيب النفساني المشهور "فرويد".
ولا أحسب أن هذا المذيع يغرف من تجربة خاصة، فعمره أقصر من أن تكون له تجربة طويلة، بيد أنه يمتلك صوتاً مرناً، يستطيع أن يكيفه بالطريقة التي يريدها، فتارة يكون ناعماً أغناً، يضاهي النساء أنوثة،على حد تعبير الشاعر المخنث، زاهي وهبة، وتارة يكون خشناً، يباري صوت عنترة أو القعقاع بن عمر. ولكنك في كل الأحوال، لا تدري لماذا يشتد المذيع فجأة ويعلن الثورة؟!، فتضطر آسفاً إلى خفض الصوت، ريثما يهدأ انفعاله، ويعود سيرته الأولى، ولا تدري أيضاً لماذا يذوب هذا المذيع فجأة، ويغيب صوته مع أبجديات القصائد؟!، فترفع الصوت إلى أعلى درجاته، فلا تكاد تسمع إلا همساً،..
ويجري الخلط بين شعر الغزل الأصيل، وبين الكلمات المنظومة لغايات الإثارة، بينما يجهد المذيع في حواراته مع الشباب، وبخاصة الفتيات، فيجعلهن أكثر براءة، وطهراً، وسط جماعة الناس الذين يمارسون عليهن سلطة القهر، والمنع من الدخول في فخاخ التجربة. لكنك تكتشف بعد قليل،أن هذه الكلمات المقذوفة في الفراغ، لا تحمل في مضامينها سوى الإهانة لمشاعر العاطفة الطبيعية، التي يتواصل بها الناس، إلى تعاون اجتماعي، تحكمه العادات، والتقاليد، والقيم الاجتماعية، ولا تقدم لنا أي خير، بل إنها تجعل منا أجناساً لا تفهم إلا الجنس، ومنفصلة عن هذا العالم العظيم، الذي طاب لنا أن نحرم أنفسنا منه. إن هؤلاء الشعراء، يريدون أن يفسدوا هذا التعاون، ويلوثونه بأحاسيسهم المنحرفة، واتهامهم للآخرين، الذين لا يبالون برغباتهم.
أعود فأقول، إن مثل هذه البرامج، تظهر جيل الشباب في أسوأ حالاته، وأسوأ سلوكياته، فكأنهم يعيشون في عالم من الأوهام، يقوم على الأكاذيب، والخداع، والسعي وراء اللذة الحسية، وليس هذا هو شعر الغزل، أو الشعر العذري، الذي عرفناه وحفلت به كتب الأدب العربي، فالقصة وما فيها، أن المذيع يحاول أن يشتري النساء، والمحبين من أهل الهوى، بالحزن، والبكاء، والصبر، والتحسر على المحبوب، وهي وسيلة طالما أفقدت شعر الغزل، وظيفته، ورونقه، وأدخلته في النوايا الشريرة، للباحثين عن المتعة، وأساليب الإثارة.
هذا النموذج من البرامج ذات المستوى الهابط، تظهر لنا بأن ما كان يعد قبيحا، ولا يتفق مع الذوق العام، أصبح أمراً معتاداً في الفضائيات العربية، فكما أن هذه الطريقة مرفوضة في مخاطبة المراهقين من الجنسين، وتشجيعهم على الانحراف، فهي أيضاً إساءة للشعر، وللشعراء، وإساءة كبيرة إلى موضوع شعر الغزل وقيمته الفنية، إلى جانب ما تتضمنه مثل هذه البرامج، من إساءة لأنبل العواطف الإنسانية، وهي عاطفة الحب الصادق.
فهل صحيح أن المجتمع لم يعد يصلح للحب الصادق؟ وهل صحيح أن الأدب لم يعد يتسع للتعبير الصادق عن الحب؟ هل ضعفت الأخلاق، وانتشرت المفاسد، واشتد تأثير الغريزة الجنسية في المجتمع، وتقلصت مكانة الحرائر؟ إن هذه البرامج وغيرها، التي تناقش قضايا العنف، والبذاءة، والاغتصاب الجنسي، لا يصح أن تقدم بمثل هذه الطريقة،..وعلى رأي الشاعر أحمد مخيمر في مقدمة ديوانه "أشواق بوذا" إن رأيي في العصر ما زال كما كان.. فأبواق التفاهة قد ارتفع ضجيجها أكثر من قبل، إلى درجة تثير الشفقة على مصير الإنسان.
0 comments:
إرسال تعليق