عادت بي ذاكرتي إلى أعوام الثمانينات وبرنامج استراحة الظهيرة الذي كان يعرض ظهيرة كل جمعة الذي كان يقدمه الفنانان المبدعان محمد حسين عبد الرحيم , والراحلة الرائعة أمل طه التي عاشت آخر أيام حياتها الأخيرة في بيت أخيها المتواضع في محافظة الكوت دون أية رعاية حقيقية ومتابعة من قبل المعنيين بشؤون الفنانين , وشرائح عديدة أخرى كالمعوقين والأرامل واليتامى والمتقاعدين تعاني من سوء الخدمات الأساسية .
فقرة يعجبني وما يعجبني التي كانت تقدم من ضمن فقرات برنامج استراحة الظهيرة حينه كانت تنال إعجابنا والمشاهدين كافة والتي كانت تركز على الظواهر السلبية في حياتنا اليومية ..
لست بصدد الإشادة بالهيئة والمؤسسة الإعلامية للنظام المقبور إلا أن البرنامج بحد ذاته كان طفرة في البرامج الهادفة التي تصور شطحات والسلوكيات الخاطئة في مجالات عدة , كالنظافة والتعامل اليومي بين المواطنين والظواهر السلبية الرائجة في ذلك الوقت وما زالت بعضها حاضرا إلى يومنا هذا .
سياسة الأنظمة الدكتاتورية هي نفسها في كل وقت وكل حين ولا تقتصر على مكان دون غيره , حيث من المعلوم أن هيئة الإعلام ووزارة الثقافة عموما كانت مجيرة ومسخرة لخدمة الحاكم وحاشيته ولتصوير بطولاته وغزواته على الشعب المسكين وحروبه الهوجاء , والتي كان وقودها وحطبها الشعب المسكين , والحاكم وحاشيته يعيشون في بحبوحة وملذاتهم و شهواتهم الرعناء ..
في مقدور جميع الأنظمة الطاغية على شعوبها أن يجعلوا شعوبهم يعيشون في رفاهية وعيش كريمين وان يوفروا الخدمات ونظام تعليم وصحي عاليين ومستوى دخل مرتفع , لاسيما إن دولا كالعراق والسعودية وليبيا وقطر والإمارات والبحرين وسوريا والمغرب والجزائر وغيرها حبباها الله بخيرات ونعم لا تعد ولا تحصى كرسها الحكام لأنفسهم ومقربيهم حصرا , مع أخذنا بنظر الاعتبار ارتفاع المستوى المعاشي والحالة المعيشية للفرد العراقي عموما , الا انه في نفس الوقت يعاني من الفساد وسوء الخدمات الاساسية .
سياسة الحكومات الفاسدة كلها واحدة وترسخت مقولة في رؤوسهم العفنة وهو ( جوع شعبك يركض ورائك ) , برامج كاستراحة الظهيرة وطاش ما طاش ومسلسل مرايا بجميع أجزائه لم ولن تكون العلاج الناجع لمعالجة الظواهر السلبية التي كانت تتناولها حلقاتها وأجزائها ولو جئنا بمئات منها مددا , مع تقديرنا لإبداع الممثلين الذين أدوا أدوارهم بحرفية ومهنية وأمانة , والسبب هو طالما كانت هناك خطوط حمراء لا يجب التجاوز والوصول إليها وهي الرئيس والإله والقائد المفدى أمير المؤمنين لا اله إلا هو !!
مسلسلات طاش ما طاش (بطولة ناصر القصبي وعبدا لله السدحان ) , ومرايا الذي جسد دوره الرئيسي الممثل (الرائع ياسر العظمة) بدأت حلقاتها وأجزائها الأولى بوتيرة متصاعدة تنتقد ظواهر وعادات يعاني منها المواطن عموما في مجتمعاتنا المتخلفة التي أعزو سبب تخلفها إلى الحاكم والرئيس والأمير ووعاظهم المنافقين حصرا , وبدأ الخط البياني لعملية نقد الظواهر السلبية لهذه المسلسلات يهبط تدريجيا حتى باتت تركز على أمور ليست بتلك الأهمية وابتعدت قصرا من الخطوط الحمراء والمنطقة المحظورة التي لا يجب الوصول إليها حين استشعرت السلطات أنها اقتربت منهم فهو ممنوعة , بل ضرب من الخيال والمحال , وأعتقد أن عرضها قد توقف نهائيا , وقد بدأ مسلسل جديد من بطولة الشعوب التي اكتسح القلوب واكتسح حكومات طاغية معها .
الحال نفسه كنت أتابعه في الأدوار الكوميدية والهزلية اللذان نالتها شخصيتان نالتا الإعجاب في شمال العراق واشتهرا بلقبيهما المعروفين ( خلو وجلو) وبدءا مسيرتهم بأعمال كوميدية ومسرحيات ارتجالية تنتقد الظواهر السلبية الكثيرة والفساد المستشري في شمال العراق , إلا إنهما أيضا باتا هم وإعمالهم يبتعدون شيئا فشيئا عن طرح المواضيع الجادة بعد تدخل سلطة الأحزاب في كل شيء وباتت أعمالهم تكاد تخلو من أي طعم ولون ورائحة ..
في ضل هذا الحراك الشعبي وصحوة العقول والأحرار ضد الأنظمة الفاسدة في الدول الإسلامية عموما والمطالبة بإسقاطها , بدأت صوت الشعب العراقي أيضا بالارتفاع مناديا ومطالبا بحقوقه المشروعة وما أريد الإشارة إليه هو ما اثأر إعجابي وما لم يثر إعجابي في هذا المشهد الذي طفا على السطح بعد استفحال واستشراء الفساد في مفاصل الدولة والجريمة والبطالة والإرهاب التي تقوده جهات تدير دفة الفساد وتسيره , وطالما قلتها إذا تفرغ الطغاة والحكام لحل مشاكل شعوبهم وتوفير الخدمات لهم ولم يبقى شيء , عندها لن يبقى هناك شيء يتحدث به المسكين واليتيم والصعلوك سوى الالتفات إلى فسادهم وقصورهم وعنجهيتهم وطغيانهم على حسابهم طوال فترة حكمهم , عليه فهذه سياسة يسير عليها المفسدون الحاليون وسار عليها المفسدون السابقون , لينشغل المواطن بمشاكله وقوته وهمه وسقمه .
ما لم يعجبني في المشهد العراقي هي المطالبات التي دعت إلى إسقاط النظام والثورة على كل شيء والطعن في كل شيء , وما لم يعجبني هو ظهور فضائيات تصور بان نظام البعث المقبور هو أفضل من ما آلت إليه الأوضاع بعيد تحرير العراق وما يسمونه هم احتلالا .
ما لم يعجبني في المظاهرات هو الهتاف باسم شخص معين ونعته بالكذب ( مع عدم إنكاري وإعفائه من مسئوليته عن جزء من الفساد ) وتناسي كذابين ومفسدين كبار آخرين لهم اليد الطويلة في الفساد واستشرائه داخل جسد الدولة العراقية ومؤسساتها ..
ما لم يعجبني هو ظهور شاعر المقبور صدام على احد الفضائيات وهو يخطب ويشحذ الهمم ضد العراق والعملية السياسية برمتها وان كانت بها بعض الايجابيات , والذي أنكر تحرير العراق ونعت حرب إسقاط الصنم بالعدوان الغاشم وجيوش التحالف بأعداء العراق وهمرات الجحيم كما سماها , وهو يخرج علينا ليشارك في إحياء الذكرى الثالثة لقبر صدام حسين ولكم أن تعودوا لمشاهد لقائه مع قناة الرافدين الإرهابية في الرابط التالي , الذي يتباكى فيه على ولي النعمة الذي ولى لغير رجعة .
ما لم يعجبني هو مظاهر العنف التي مارسها بعض المتظاهرين في الكوت وحرقهم مبنى المحافظة , وما لم يعجبني عندما أرى أن قوات خاصة وأجهزة أمنية يقول عنها رئيس البرلمان أنها حرقت مبنى محافظة الموصل دون الإشارة إلى الجهات المتورطة في ذلك وتسببها في قتل وجرح العشرات , ما لم يعجبني استخدام بعض أجهزة الأمن للقوة المفرطة واستخدام الرصاص الحي في قمع المتظاهرين , ما لم يعجبني أن أرى بعض مشاهد قمع الإعلام والصحفيين من نقل مشاهد التظاهرات واعتقال عدد منهم بشكل تعسفي وغير لائق , لم يعجبني قيام ميليشيات إحدى الأحزاب الكبيرة في السليمانية بقتل وجرح عدد من المتظاهرين ضد فساد الحكومة المحلية وسكوت أبناء جلدتهم المطبق في محافظات أخرى بل وصفهم بالغوغاء والهمج الرعاع والمخربين ( على غرار القذافي الذي نعت شعبه بالجرذان وشرذمة تتعاطى حبوب الهلوسة) القذافي الذي سمت حكومة الإقليم شارعا رئيسيا باسمه في مدينة السليمانية , هل لقلة الأسماء وندرتها أم لغايات في أنفس هؤلاء لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم ؟؟ أو كما يقول المثل الشعبي من قلة الخيل شدوا على الجلاب سروج ..
يعجبني أن أرى المتظاهرين وهم يقدمون الورود إلى قوات الأمن المكلفة بحماية المتظاهرين وهم يتبادلون القبل ويرشون عليهم العطور , يعجبني أن أرى المتظاهرين وهم يمنعون مظاهر العنف وإيقاف بعض المشاغبين من القيام بأعمال حرق وكسر وشغب , يعجبني أن أرى الشعب العراقي يطالب بإصلاح النظام وليس إسقاطه وتعزيز التجربة الديمقراطية وصون جميع الحريات دون استثناء , يعجبني أن أرى المتظاهرين وهم يطالبون بحقوقهم في الخدمات وهم في نفس الوقت يقومون بكنس الشوارع وتنظيفها وإزالة النفايات , ويعجبني أن أرى الشعب العراقي وهو يطالب بحقوقه ويعجبني أكثر أن يستمر بذلك بأسلوب حضاري ووعي وثقافة عالية دون الانقياد إلى أجندات البعثية والقومجية والحاقدين على العملية الديمقراطية بعيد إسقاط صنم هبل الكبير .
وليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه ..
بلجيـــــــــكا
البريد ألإلكتروني:
0 comments:
إرسال تعليق