ما زالت أقلام الكتَّاب والشعراء والمحللين تسيّل حبرًا على ورق في توصيف وتحليل وتمجيد ما يحدث في مصر وقبلها في تونس. حالة طبيعية وصحية، تعكس، أكثر ما تعكس، قساوة القمع الذي ساد واستبد بتلك المجتمعات فأخاف وأخرس أصوات فئات انطلقت في فضاءات أتمنى أن تسود بعد أن تهدأ العاصفة.
الحرية وكرامة الإنسان عنوانان أساسيان كانا إكليلين توَّجا أشرعة تلك المراكب البشرية التي مخرت عباب ما أسن من مياه النظام العربي. تونس ومصر كانتا أول الحبّات في عقد ما زال محبوكاً على رقاب عشرين دولة أخرى.
بمنأى عن أي برِّ سترسو عليه هذه المراكب، فما جرى تعدَّى استدعاء أحلامنا الدفينة الخجولة. وحوَّل ما انتابنا من حالة عار مشلّة إلى أمل وعافية، والأهم إلى درس لكل من طغى وتجبر ولكل من بنى على واستكان إلى واقع حسبوه دائما لا يزول.
ما حدث في تونس ويحدث في مصر الآن فاجأ العالم. وأغرب ما في الأمر أنه فاجأ أحزاب البلاد وما كان معرّفاَ بأحزاب وحركات المعارضة، هذه أصبحت اليوم تعرّف بالمعارضة الرسمية، لأن من هدر هديره في شوارع وساحات هذه الدول كانت جموعًا على أمواجها حاولت الأحزاب أن تركب. جموع اصطلح على تسميتها بأجيال الشباب، أجيال الفيسبوك والانترنت. لم يخرج هؤلاء بأمر قائد حزبي ولا بهدي قرار من معارضة، فهذه وجدت نفسها في ذيل ما يحدث غير جاهزة لقيادة ثورة مفاعلاتها صنّعت وأنتجت في مصانع مغايرة، مختلفة عمّا عهده هؤلاء القادة واعتمدوه من نظريات ووسائل كفاح وتجنيد.
ما حدث سوف يستدعي الدراسة والبحث والأهم سيفرض على ما عرف من أحزاب معارضة للأنظمة الحاكمة في الدول العربية، تحديث وسائل عملها الشعبية وملائمة خطاباتها السياسية لما يفرضه الواقع السياسي الاقتصادي والاجتماعي القائم في العالم وفي منطقتنا تحديدًا.
لهيب نيران تونس يهدأ وإن كان فرار زين العابدين بن علي وعائلته درسًا وموعظة لرؤساء ما زالوا وعائلاتهم يطغون ويتجبرون، إلا أن ما تشكل من حكومة لا يرقى لما حلم به رفاق الياسمين وبوعزيز، فالعبرة بما سيأتي.
أمّا في مصر، فالمخاض ما زال عسيرًا وجاريًا. والمعارضة الرسمية، مستفيدة من حناجر وصمود نواطير مصر الحقيقيين، وافقت على محاورة عناوين النظام الذي كاد يقضي، ولا أحد يملك القدرة على التنبؤ عن أي مولود سيولد، فكل الاحتمالات واردة.
عناقيد مصر غنية، وبشم منها من بشم. قبل أبي المسك، كافور الإخشيدي، وبعده. العبرة كانت وما زالت بنواطيرها وقدراتهم على صد جوقات الثعالب المتحفزة والمتأهبة للانقضاض بشهية تفوق شهية أبي الطيب المتنبي للفوز بولاية حجبها ذلك الإخشيدي عنه فذكّره حينها وخلّده لنا عبدًا على طاولته كان يتحلق ومن خيره أراد أن يبشم، فطمع وأخفق وأمسى معارضًا رسمياً يصيح ويخطب في بلاد أبي مسك آخر واعدٍ متوعد.
ما جرى ويجري في مصر تاريخي وهام، ولا حاجة لأتغنى "بمصر التي في خاطري في دمي". لكنني أتوجس لا من أجل مصر فقط بل من أجل ما سيبقى الهم والسؤال الأهم، فما وقع ما يجري هناك على فلسطين وما يحيق بها من خطر تلك الثعالب المنقضة على عناقيدها.
للوهلة الأولى والطبيعي أن يقول القائل أن ما يجري سيكون في نهاية النهايات لصالح فلسطين وقضية فلسطين، لأن ما يجري من شأنه أن يقنع العرب والعالم وإسرائيل كذلك، أن ميزان القوى الذي كان قائمًا والذي خدم إسرائيل ومن حماها ورعاها، آخذٌ بالتصدع، وما ستلده الأيام، محمولاً على رياح التغيير الإيجابي المأمول، حتمًا، سيكون في صالح فلسطين وحتمًا سيصب في كفة فلسطين ويضعف أعداءها.
هذا هو الحلم وهذه هي الأمنية. لكني أكتب راصدًا تلك الساحات التي امتلأت بآلاف مؤلفة من البشر الهادر، في تونس وفي مصر كذلك، دون أن تذكر فلسطين ولو مرة واحدة ودون أن يسجل أسمها على يافطة صغيرة واحدة.
أقول هذا وأعرف أن للمصري حق بأن يحظى بمصره، حرة كريمة وبمجتمع يسوده العدل والقانون ولا يعرف الفقر القاتل ولا الاغتناء المبني على السلب والنهب.
أقول هذا وأعرف أن للتونسي حق بأن يعيش على قمم العز وجبال الفخر وأن لا يبقى أبد الدهر بين الحفر! لكني أقول ما أقول وأعرف أن الأيام حبلى والرياح عاتية، ولذا أخاف على أشرعة مراكب فلسطين. يقيني أن هذه الأشرعة يجب أن تبقى ممسوكة بأيدي نواطير فلسطين وشعب فلسطين.
جرعات الأمل التي زودنا بها المشهد المصري وقبله التونسي، كبيرة ومنعشة. إلى جانبها تكدست مجموعة من الأسئلة والتساؤلات سيكون المستقبل كفيلاً بالإجابة على بعضها. على أهميتها ستبقى أسئلة يشارك في حلّها وفكها عوامل عديدة، أما نحن الفلسطينيين داخل إسرائيل، سنبقى نواجه تحديات الواقع والحالة الإسرائيلية المتدهورة في منزلقها الخطر.
لكل مصر كافورها وثعالبها وأخوة الشابي التونسي أجادوا في فلسطين ما أجادوا، قبله وبعده وتبقى القضية مرهونة بأن لا ينام النواطير.
للاقتباس:
ما جرى ويجري في مصر تاريخي وهام، ولا حاجة لأتغنى "بمصر التي في خاطري في دمي". لكنني أتوجس لا من أجل مصر فقط بل من أجل ما سيبقى الهم والسؤال الأهم، فما وقع ما يجري هناك على فلسطين وما يحيق بها من خطر تلك الثعالب المنقضة على عناقيدها.
0 comments:
إرسال تعليق