كانت استقالة الوزير شربل نحاس من اغرب الاستقالات في التاريخ السياسي. تمسك الرجل باحكام مجلس شورى الدولة الذي وافق بالاجماع على مشروع الوزير مع طلب بعض التعديلات، ولكن اكثرية الوزراء صوتوا ضد مشروع نحاس وطالبوه بتوقيع القانون او الاستقالة. واصبح الوزير امام خيار التوقيع على قانون لا يرضي ضميره او قناعاته يدعمه مجلس شورى الدولة، ورفض التوقيع الذي شلّ الحكومة وعلّق الرئيس ميقاتي جلساتها غير آبه بنتائج قراره وكأنه يريد اسقاط حكومته ليبقى في منصب تصريف الاعمال حتى الانتخابات القادمة بعد ٥١ شهراً.
وبما ان إسقاط الحكومة يعتبر كارثة في هذه المرحلة الساخنة اقليمياً ويخشى من ان يتسلم زمام الامور الفريق الداعم لإشعال حروب أهلية في المنطقة والذي كشف عن وجهه علناً في مؤتمر »اصدقاء سوريا« التونسي، رأى الوزير نحاس ان ابتعاده عن الوزارة طوعاً وقناعة يرضي ضميره ويبقي الوضع الحكومي والامني تحت السيطرة المرجوة.
وبعد ان كان فريق »فتح الاسلام« يعتبر نحاس والفريق الذي انتمى له مجموعة مشاغبين ومعطّلين، تحولوا بعد تقديم الاستقالة الى مجموعة » تشفّي« متهمة الجنرال انه تخلى عن أقرب المقربين اليه والذي كان أحد أبرز مستشاريه طوال سنوات على حد أقوالهم.
ذكرت النشرات الاخبارية ان احدى السيدات في كسروان رفعت يافطة امام منزلها كتب عليها: »ان حكومة تقبل استقالة شربل نحاس لا مستقبل لها«... ولكن الاستقالة تم قبولها بعد ان طُوِّق الرجل داخلياً وإقليمياً الى حد ان قوى دولية تحركت بهدف إحراجه لإخراجه.
لم يقدر أحد ان يحرج شربل نحاس لانه رجل معرفة وقانون ومبادىء. وبعد ان تحول الى هدف لإسقاط الحكومة بسبب تمسكه بدستورية القوانين من اجل الوصول الى الفراغ والعودة الى الاشهر الاولى الستة بعد تكليف الرئيس ميقاتي، تأكد انه في الزمان الخطأ وفي المكان الذي ضاق دائماً بأمثاله.
اشترطوا عدم بقائه في وزارة الاتصالات بعد ان أحدث ثورة بداخلها وفضح المتسلّطين. وحتى لا يتهم بعرقلة تشكيل الحكومة وافق على حقيبة العمل التي يعتبرها الجميع ثانوية لا أهمية لها. وعندما تسلمها فتح ملفات حقوق العمال ليجد فضائح إنسانية وأساليب استغلال وتحايل ضد الكادحين، فعمل على اصدار قوانين ومراسيم تُرجع للعمال بعض حقوقهم، الى ان كانت فضيحة دفع بدل تنقل العمال الى اعمالهم ليتقاضاها هؤلاء خارج قيمة الراتب المحدد، وهذا ما يحرم العمال من ثلاثين بالمئة من قيمة تعويضاتهم عند انتهاء فترات عملهم.
واجه شربل نحاس الصدمة الأولى ممن ظنّهم السدّ المنيع بوجه المتطاولين على حقوق العمال، اي الاتحاد العمالي العام، الذي تواطأ مع جشع أرباب العمل بكل وقاحة، والاسباب ذكرها الوزير بوضوح وتتعلق بالصفقات والمصالح الخاصة.
وقبل ان يغادر شربل نحاس مكتبه للمرة الأخيرة نصّ ووقّع عدة مراسيم هامة وتاريخية، أبرزها مرسوم تنظيم عمل الفلسطينيين في لبنان الذي يسمح لهم بالعمل في قطاعات محددة وعديدة بعد ان مُنعوا من ذلك طوال ٤٦ عاماً حيث يسمح لمئات الألوف من العمال السوريين والمصربيين والسودانيين والسيريلنكيين والفيليبينيين وغيرهم بالعمل ويحرّم على الفلسطينيين. كذلك أصدر عدة مراسيم أخرى لتنظيم وقوننة نقابات العاملين في قطاع الإعلام المرئي والمسموع بعد انتظار طال سنوات حيث كانوا عرضة لأمزجة أرباب العمل وأهوائهم. وهناك مراسيم أخرى سيلتزم بها الوزير الجديد سليم جريصاتي دون شك بناء على ما عرف عنه من علم ونزاهة.
قيل وكتب الكثير عن شربل نحاس وتم كشف الكثير من سيرته ونشاطه السابق. احد خبراء الاقتصاد قال بعد تشيكل الحكومة الحالية انها لخسارة كبيرة ان لا تسند وزارة المالية الى رجل مثل شربل نحاس وهي قليلة على مؤهلاته... وعاد المعلق نفسه بعد استقالة شربل نحاس ليشبّه استقالته باستقالة شارل ديغول عام ٩٦٩١ ووصفه بشجرة الحور التي لا تنحني ولا يتوقف صعودها الشامخ.
وظهرت حقائق كثيرة عن سيرة الرجل الهادىء كأستاذ جامعي وخريج معهد البوليتكنيك الفرنسي الذي يعتبر أهم معهد دولي للعلوم السياسية والادارية، وكخبير اقتصادي مشرف على عملية إعادة إعمار بيروت حيث استقال بعد فترة وجيزة واصفاً ما حوله بمغارة علي بابا ورافضاً الاغراءات المادية.
ويقال ان نحاس كان أول من اكتشف ان الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ ٣٩٩١ تصرف أموال الخزينة دون كشف حساب أو محاسبة مما أدى الى فضيحة كبرى حالياً معروفة بفضيحة الاحد عشر مليار دولار.
ان خيبة شربل نحاس لم تكن الأولى وربما لن تكون الاخيرة. فهو يدري انه في المكان الخطأ وفي الزمن الرديء. ولكنه لن يذهب الى باريس للتدريس الجامعي والعمل كما يتمنى عليه بعض الاصدقاء، لانه يعتبر ان اصحاب الضمائر والكفاءات في لبنان تعلّموا منه الكثير وهم بحاجة اليه. وقد غيّر أخصامه أساليب التحامل عليه من مشاكس ومتعنت الى ضحية مغدرور به الى القول انه ماركسي وشيوعي سابقاً وحاضراً. ولكنه لم يرد مكتفياً بالقول ان مهاجميه يعيشون من ثمن مقالاتهم ضدّه.
0 comments:
إرسال تعليق