قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي شاركت في "خمس" جولات من المحادثات "الاستكشافية" مع مفاوضي دولة الاحتلال الإسرائيلي في الأردن الشهر الماضي كانت غاضبة خلال الأسبوع الماضي بسبب "التسريبات" الاسرائيلية عما دار في تلك المحادثات، وقد وصفت الرواية الاسرائيلية المسربة بانها "أكاذيب" و"أنصاف حقائق" (ياسر عبد ربه وصائب عريقات على التوالي)، وبعثت برسائل احتجاج إلى أعضاء اللجنة الدولية الرباعية "أدانت" فيها التسريبات الاسرائيلية (بيان صحفي مكتوب لعريقات)، لكنها لم تتخذ من هذه التسريبات مسوغا ل"تسريب" روايتها بدورها، في الأقل دفاعا عن موقفها ودحضا ل"الأكاذيب" وكشفا ل"نصف الحقيقة" الآخر، مما يثير التساؤل عن أسباب استنكافها عن ذلك: فهل كان في موقفها في تلك المحادثات ما ينبغي حجبه عن الرأي العام العالمي، وقبله الوطني ؟ وإلا لماذا التكتم !
إن تصريح هذه القيادة تعقيبا على فشل المحادثات "الاستكشافية"، بعد اجتماع لها برام الله أوائل الشهر الجاري، بأن "المواقف والأفكار التي لا تزال تطرحها" حكومة دولة الاحتلال لا تمثل "الحد الأدنى المطلوب لبدء مفاوضات جادة" لا جديد فيه يضيف إلى معلومات الشعب الفلسطيني، وهو تصريح مكرر بعدد المرات التي كررت حكومة الاحتلال الحالية مواقفها وافكارها منذ عام 2009، وهذه المواقف والأفكار لا تقتصر على حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، بل هي قصة ممجوجة مكررة ومستهلكة تشمل حكومات دولة الاحتلال المتعاقبة منذ بدأت "عملية السلام" قبل حوالي عشرين عاما، أما تعقيبات مفاوض المنظمة عليها فلم يكن من المتوقع أبدا أن تكون غير مكررة وغير مستهلكة لسبب بسيط واحد هو حقيقة عدم وجود أي "تعاقب" في مفاوضي المنظمة، فهم هم أنفسهم منذ بدء "عملية السلام"، بالوجوه ذاتها، واللغة ذاتها، والمرجعيات ذاتها، والنتائج ذاتها على الأرض المحتلة، والتكتم ذاته، و ... الفشل ذاته.
لقد كانت "عملية السلام" ومفاوضاتها ومفاوضوها قصة مملة لكارثة وطنية لا يبدو حتى الآن أن روايتها قد انتهت، لكن عنصر التشويق الوحيد الذي يخفف من ملل من يتابعها كان ولا يزال يكمن في سريتها وفي التكتم على ما دار ولا يزال يدور في دهاليزها وكواليسها من أسرار، مما يذكر بأن "عملية السلام"، منذ مؤتمر مدريد عام 1991 الذي جمع "علانية" وتحت فيض من الأضواء الساطعة شهود زور عرب ودوليين على إطلاقها "سرا" في مسارها الفلسطيني في أوسلو وفي غير أوسلو، قد تحولت في الواقع إلى قصة مأساوية لتغييب الشعب الفلسطيني كشرط مسبق لتقرير مصيره فيها دون مشاركته الفعلية.
والمفارقة المفجعة أن تغييب الشعب الفلسطيني عن مشاركته في تقرير مصيره جرى باسم "الممثل الشرعي والوحيد له"، ممثلا في منظمة التحرير الفلسطينية، التي ظلت طوال هذه العملية تحظى باعتراف كل الأطراف المشاركة فيها بشرعية تمثيلها لشعبها، في الوقت ذاته الذي كانت هذه الأطراف تسعى جاهدة إلى تهميشها إن لم تستطع تصفيتها، لتستبدلها بالحكم الذاتي الاداري المتآكل تحت الاحتلال المباشر، بينما ظلت هذه الشرعية مطعونا فيها وموضع جدل لدى الشعب المغيب.
وهذا الواقع يفسر الانقسام الوطني اللاحق ويفسر الاتفاق الوطني حاليا على "تفعيل" المنظمة كشرط مسبق لانهاء الانقسام وإنجاز الوحدة الوطنية، ويفسر كذلك اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي وضعت الشعب في مواجهة القيادة المفاوضة وليس في مواجهة الاحتلال فحسب، مما اقتضى "تغيير النظام" السياسي الفلسطيني، ب"ترفيع" مفاوض المنظمة من أداة في يد هذا النظام في عهد الراحل ياسر عرفات إلى قيادة له الآن، مما قاد بدوره إلى النجاح في "احتواء" انتفاضة الأقصى الثانية، فاتسعت الهوة بين الشعب المغيب وبين القيادة المفاوضة، ليقود اتساعها إلى سحب الثقة الشعبية في هذه القيادة في انتخابات عام 2006 التشريعية، وكان الانقلاب على نتائج تلك الانتخابات هو السبيل الوحيد لابقاء تلك القيادة في مكانها، كشرط لا غنى عنه للاستمرار في تزييف إرادة الشعب المغيب الرافض لاستمرار "عملية السلام" بتمثيل اسمي رمزي له فيها.
وهذا تمثيل اسمي رمزي منسجم مع ذاته، يصرح علنا بمعارضته لأي انتفاضة فلسطينية "ثالثة"، ويعارض أي مقاومة للاحتلال، حد المشاركة في محاصرة أي مقاومة كهذه ومطاردتها، ويدعو كبديل لذلك إلى مقاومة شعبية "سلمية" كان يدعو إلى مثلها منذ سنوات لكنه لا يبدي أي استعداد جاد لممارستها، بالرغم من كونه يمتلك امكانياتها، وبالرغم من كونها مدخلا مقبولا للوحدة والوطنية وإنهاء الانقسام، وهذا بدوره يثير التساؤل عن أسباب استنكاف القيادة المفاوضة عن ممارسة ما تدعو إليه، والجواب المنطقي الوحيد على هذا التساؤل سوف يظل يكمن في أن هذه القيادة لا تزال على الأرجح تأمل في استئناف المفاوضات، ربما بعد الانتخابات الوشيكة في الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الاسرائيلي، إلى أن تقرر هذه القيادة الطلاق البائن بينونة كبرى مع سلوكها التاريخي في السرية والتكتم لتطلع الشعب المغيب على أية اسباب أخرى لديها غير ذلك. لكن السؤال يظل قائما، لماذا الاستمرار في التكتم ؟
في أواخر الشهر العاشر من العام الماضي، على سبيل المثال، أبلغ "كبير المفاوضين" د. عريقات ممثلي الرباعية الدولية الزائرين رفض القيادة المفاوضة لعرض من حكومة الاحتلال قدمته للرباعية بإجراء "مفاوضات سرية"، وطبعا لم يعلن عريقات الرفض للسرية من حيث المبدأ بل في تلك الحالة المحددة فقط، بينما المطلوب وطنيا هو إعلان قيادي بالقطع نهائيا مع سلوك تاريخي في السرية والتكتم، من دونه ما كان ل"عملية السلام" ان تنطلق أو تستمر وما كانت لتوقع الاتفاقيات الموقعة التي تم الاتفاق عليها في السر والتكتم، وهو سلوك غيب الشعب عن المشاركة الفعلية في تقرير مصيره، لفترة طالت أكثر من اللازم وآن لها أن تنتهي. لكن مفاوض المنظمة يبدو كمن يحاول اليوم الالتفاف على هذا المطلب الشعبي، ف"الاحتجاج" و"الادانة" للتسريبات الاسرائيلية عن محادثات الأردن ثم الشكوى إلى الرباعية بسبب نشرها تشير إلى توجه هذا المفاوض إلى "إعلان" رفضه لإجراء مفاوضات سرية من جهة وفي الوقت ذاته إلى الإعلان من جهة أخرى عن إجراء مفاوضات "علنية" يصر على أن تبقى مداولاتها "سرية" فقط على الشعب الفلسطيني، المعني الأول والأخير بهذه المداولات، بينما تعلم بها كل الأطراف الأخرى ولا ترى ضيرا في تسريب "أنصاف الحقائق" عنها.
إن التجمع القيادي الفلسطيني في القاهرة - حيث تواجد خلال اليومين الماضيين الاطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير ورئيسه محمود عباس، وأعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة، ورئيس مجلسها الوطني، وأمناء الفصائل، والمكتب السياسي لحركة حماس ورئيسه خالد مشعل، وشخصيات تمثل "المستقلين" – قد حول العاصمة المصرية إلى عاصمة للجهود الطامحة إلى إنجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية، وهذه مطلب شعبي آخر، واستحقاق لا يجادل إثنان في ان المفاوضات ومفاوضيها وسريتهم وتكتمهم كانوا سببا رئيسيا أو السبب الرئيسي في تعثر إنجاز هذا المطلب حتى الآن، ومن المؤكد أن إنهاء تغييب الشعب الفلسطيني عن المشاركة في تقرير "علني" لمصيره، وردم فجوة السرية والتكتم المتسعة بينه وبين القيادة، أي قيادة، هو الضمانة الأكيدة لاستمرار وديمومة أي وحدة وطنية مأمولة شعبيا يتم إنجازها.
*كاتب عربي من فلسطين
0 comments:
إرسال تعليق