قرأ الإسلام السيَّاسيِّ الترُّكيِّ السيَّاسات الدولية والإقليمية قراءة معمقة بعد فوز حزب العدالة والتنمية بالسلطة عام 2002، وصاغ نظريته السيَّاسيَّة التي تنطلق في رؤياها من المبادئ والتعاليم العلمانية الكمالية، على ثلاثة مستويات، المستوى المحليِّ والتركيز على الأوضاع الاقتصادية، وسبل الارتقاء في تنمية هذا الجانب الحيويِّ الذي يكفل تحقيق رفاهية اقتصادية للمواطن التركيِّ ومن ثمَّ للدولة التركيَّة، وعلى ضوئه يكفل كّسب ثقة الناخب وبالتالي صوته الانتخابي، ودعمه للحزب، وهو ما حدث في الفترتين اللتان حكم بهما حزب العدالة والتنميَّة- ولا زال-، المستوى الثاني السيَّاسات الإقليمية، والجوار البيئيِّ الإقليميِّ، انطلاقًا من نظرية"صفر مشاكل" للمنظر أو مهندس السيَّاسة التركيَّة أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية الحاليِّ، ومن خلالها استطاع بناء علاقات متوازية ومتزنة مع الدول العربيَّة، وفتح أسواق اقتصادية جديدة لها، دون الانحياز إلى المحورين العربيين"دول الممانعة أو دول الاعتدال" بل وقف على نفس المسافة منها، ورسخ علاقات مع السعودية، ومع سوريا، ومع مصر، ومع إيران، وتعاطي معهما بما يحقق مصالحه القوميَّة التركيَّة، والتوجه للرأي العام الشعبيِّ العربيِّ من خلال القضيَّة الفلسطينيَّة، ودعم الفلسطينيين في حصارهم، وفي الحرب التي شنتها "إسرائيل" عام 2008، حيث احتل حيز الفراغ الذي يشعر به المواطن العربيِّ من هامشية السيَّاسات الرسمية العربيَّة داخليًا وإقليميًا ودوليًا، والمستوى الثالث التعاطي مع القضايا الدولية وفق متغيراتها ومتحولاتها، والقدرة على التفاعل والتعاطيِّ مع هذه المتغيرات، وعليه لم يتخندق حول مواقفة الثابتة، وبنى علاقات مع روسيا واتجه لدول القوقاز، كما اتجه لدول أفريقيا واسيا.
قراءة الإسلام السيَّاسيِّ التركيِّ للاستراتيجيات السيَّاسيَّة مكنته ومنحته مرونة الحركة، وخاصة القبول، فهو مقبول دوليًا من طرفي القوة أوروبا والولايات المتحدة، ومقبول روسيًا وصينيًا، ومقبول إسرائيليًا وعربيًا، كما أنّه يستقبل استقبال الأبطال العربيَّة، ولم يجد من يطالبه بقطع علاقاته السياسية، والعسكرية، والاقتصادية مع إسرائيل بل انه يستقبل استقبال الأبطال من الشعوب العربيَّة، ومن قوى المقاومة والممانعة، ومن الحكومات الجديدة التي أنتجتها ثورات الربيع العربيِّ في تونس ومصر وليبيا.
وأصبح اللاعب التركيِّ هو الأكثر قبولًا خليجيًا كبديل استراتيجيِّ إقليميِّ للعرب، بفضل سيَّاساته التي لا يمكن تجزئتها، وفصل مكوناتها المحلية والإقليمية والدولية، وهو ما فشل في قراءته الإسلام السياسيِّ العربيِّ الذي لازال يتقوقع في واقعه التقليديِّ، وقراءته التي صاغها المؤسس حسن البنا قبل عقود، بالرغم من أن الثبات صفة الجماد، أما علم السيَّاسة والحياة فهو علم متحرك متغير قابل للتطور، وقابل للانصهار مع المتغيرات والمتحولات والمعطيات.
هذا التقديم هو إسقاط للقراءة الحالية المتمحورة حول سيناريوهات الحالة المصرية، أو السيَّاسة المصرية التي عاشت ثلاثون عام بحالة سكون وثبات سواء على المستوى المحليِّ، أو الإقليميِّ، أو الدوليِّ، وتركت موروثًا لأيّ قوة تقود مصر، والتي تمَّ تحديدها فعلًا من خلال اختيار الناخب المصري مرشح الإخوان المسلمين"محمد مرسي" الرئيس الأوّل المدنيِّ والمنتخب ديمقراطيًا كجنين شرعي لثورة 25يناير التي أطاحت بحكم حسني مبارك، ولكنها لم تطيح بعد بنظامه، ويبدو أن هذه المهمة هي الآن على عاتق الرئيس الجديد"محمد مرسي" ولكن هل ينجح في ذلك في ضوء البيئة المحلية المصرية؟!
الإجابة على هذا السؤال تأتي في السياق العام لمعرض استعراضنا للثابت والمتغير في السيَّاسات المصرية بعد فوز"محمد مرسي" بالانتخابات المصرية، رغم إننا أوضحنا أن علم السيَّاسة أو السيَّاسة لا تعترف بالثبات، وقدمنا النموذج التركيِّ كمرشد تأكيدي على ذلك، وهو يتنافي مع الأصوات التي بدأت تتعالي بعد فوز"مرسي" أن الميراث ثقيل، والعبء كبير، لأنّه ورث موروث ثلاثون عام من الفساد وهدر الطاقات، ومجتمع يتصارعه البطالة، والمخدرات، والتضخم، والفقر، والعشوائيات...إلخ، إضافة لاستولادات ثورة 25يناير، والانفلات الأمنيِّ العام، وقضيَّة سيناء، والعلاقات مع "إسرائيل"، والعلاقات مع إيران، ومياه النيل، وأزمات سيَّاسيَّة واقتصادية واجتماعية كبيرة جدًا وخطيرة.
بكل تأكيد موروث ثقيل، وعبء كبير، ولكن دراسة تجارب الشعوب هي المدخل الأساسيِّ لحل كل هذه المعضلات، والتجارب غنية وثرية بإيجاد والحلول، فهناك تجربة النمور الآسيوية، وتجربة دول أمريكا اللاتينية، وتجربة اليابان، والصين، وآخرها التجربة التركيَّة التي ورثت موروث مأزوم، واقتصاد شبه منهار، وأزمات سيَّاسيَّة مع الغرب والشرق، وأوضاع داخلية يشوبها أجواء حرب وتمرد كرديِّ، ومؤسسة عسكرية متأهبة ومهيمنة على الحياة السيَّاسيَّة والدينية، ورغم ذلك حققت قفزات ونجاحات كبيرة جدًا خلال عقد من الزمن.
أول المهام التي لا بد وأن يبدأ بمعالجتها الرئيس المصريِّ وحكومته القادمة هي الأوضاع الاقتصادية المصرية الداخلية، وهي لا تحتاج لضخ مليارات الدولارات، بقدر احتياجها لقانون الحساب والعقاب، وإيقاف هدر الأموال، والقضاء على مظاهر الفساد والإفساد التي أصبحت وكأنّها قوانين ثابتة غير قابلة للتغيير، وهذه المهمة هي على رأس الأولويات في أيّ خطة إصلاح فعلية للاقتصاد، ما دون ذلك فكل البرامج والخطط لن تحقق أيّ نتائج مرجوة أو ملموسة، وسيبقى الحال عما هو عليه، ولن يشعر أو يحس المواطن المصريِّ بأي تغيير في مناحي حياته اليومية والأساسيَّة التي كانت العامل الهام والحاسم في ثورته على النظام السابق، فالمواطن العربيَّ عامة الذي يعاني من الفقر والقهر لا يبحث كأولوية أولى إلاَّ عن رفاهيته الاجتماعية، وخاصة المواطن المصريِّ الذي كان يهان في بلده وخارج بلده جراء سيَّاسة التجاهل التي كان يتعرض لها، وتَمارس ضده.
إذن فالثابت الأول والأولوية التي يجب أن تفرح على طاولة الرئيس المصريِّ الجديد هي ملف الاقتصاد المصريِّ، والذي يجب أن يكون على سلّم الأولويات، والاستعانة بخبراء اقتصاد، وقضاء، واجتماع الصياغة وكتابة رشته العلاج، لان أركان العلاج ليست اقتصادية بحتة، بل هي اقتصادية تتطلب عقوبات وأحكام، وقوانين جديدة تطبق على كُلّ المواطنين دون تحديد مستويات وطبقات، وكذلك علماء اجتماع لصياغة النظريات الاجتماعية المتهمة، والتي تتوافق مع الفسيفساء الاجتماعية المصرية.
أما الثابت الآخر هي السيَّاسات المصرية المرتبطة بالأمن القوميِّ المصريِّ، وهي هنا ترتبط بحركة حماس أو غزة على وجه التحديد، والعلاقة بين غزة وسيناء بوابة الأمن المصريِّ، والثاني "إسرائيل" ومعاهدات السلام، والثالث النيل ومياهه ودول منابعه.
منذ ثورة 25يناير، وتحليلنا لها وأثرها على السيَّاسات الخارجية المصرية، ذكرنا سابقًا أن النظام المصري السابق اعتمد في سيَّاساته الخارجية على جهاز المخابرات المصريِّ، وسلّم ملف الخارجية لهذا الجهاز، مما أحدث خللًا كبيرًا في دور مصر الحيوي وفاعليته، وأدى لتراجع هذا الدور، وأخذ قوى أخرى غير عربيَّة مكانة الدور المصريِّ، بل وانعكست على المواطن المصريِّ ذاته، حيث أصبح يُهان خارجيًا، بعد الثورة استلم ملف الخارجية الدكتور نبيل العربيِّ لفترة وجيزة استطاع خلالها أحداث اختراق حيويِّ خاصة فيما يتعلق بقضيتَّه دول حوض النيل، وهو ما يؤكد أن ِّ والدولي، كما صاغ أحمد داود أوغلو السياسة التركية بنظرياتها الثلاث.
فيما يتعلق بغزة وسيناء فإن المسألة لا تشكّل عبء خطير على مصر وأمن مصر، بل يمكن التعامل مع هذا الملف بكل حيوية ودينامية، وإنهائه من خلال سحب ملف غزة من جهاز المخابرات المصرية، ومنحه للخارجية المصرية أو الحاقه بالهيئة الاستشارية للرئيس، والعمل وفق ثلاثة آليات.
1.إنّهاء ظاهرة الأنفاق بين غزة ومصر كليًا من خلال فتح معبرّ رفح بحرية أكبر، والسماح بإدخال المواد الغذائية والسلع واحتياجات غزة، بذلك يكون انتهى موضوع التهريب كليًا وضبطت الحدود مع غزة أمنيًا، وثانيًا فتح سوق تجارية لمصر مع غزة، وغزة سوق استهلاكيِّ كبير جدًا.
2.العمل تحت رعاية وإشراف الرئيس المصريِّ على إنّهاء ملف المصالحة الفلسطينيَّة-الفلسطينيَّة من خلال الضغط على طرفي الصراع في تطبيق اتفاقية المصالحة بعيدًا عن عقلية الاستخبارات المصرية التي لم تفلح بتحقيق أيّ شيء على الساحة الفلسطينيَّة.
بل أن الانقلاب أو الانقسام جرى تحت رعايتها، وأعينها، وبذلك يحقق جانب تنسيق هام وحيوي لمصر مع الجانب الفلسطينيِّ وعدم السماح للملف الفلسطينيِّ أن يخرج من الرعاية المصرية.
3.أن تحقق البندين السابقين يصبح هناك رقابة مزدوجة من الجانب المصريِّ والجانب الفلسطينيِّ، وضبط العناصر المنفلتة والمتطرفة بالجانبين، وبذلك يعود الهدوء والضبط لسيناء، ويبدأ المواطن المصري يستشعر الأمن والأمان ورفاهية الحياة الآمنة.
أما على الجانب الإسرائيليَّ، وفيما يتعلق باتفاقيات السلام المصرية- الإسرائيلية، فلا يمكن للعقل والمنطق أن يتأمل أو يطالب الرئيس المصري بإلغاء هذه الاتفاقيات، أو التنكر لها، فهذا يأتي في إطّار الديموغوجيا السيَّاسيَّة، واللاواقعية؛ فهذه اتفاقيات دولية، إلغائها يحتاج لرأي عام إقليمي ودولي، وأسباب قاهرة لذلك، أيّ أن الإلغاء يعني إعلان حرب، وهل الرئيس ومن خلفه جماعة الإخوان مستعدون للحرب مع "إسرائيل"؟ وهل الشعب المصري مستعد للحرب؟ وهل منتخبي الإخوان ومرسي أنفسهم مستعدون للحرب؟!المطلوب ليس حربًا، بل المطلوب حربًا ولكنها حربًا بمفهوم ومعنى آخر، يمكن أن تعاقب "إسرائيل" أشدّ عقاب، وهي حرب سيَّاسيَّة تحافظ على حدود اتفاقيات كامب ديفيد في الإطار الذي يمس بـِ"إسرائيل"، أيّ وقف السيَّاسة الأمنية التي كانت سائدة وقائمة في عهد النظام السابق، والإبقاء عليها في أضيق الحدود الممكنة، وفي التعاملات المتعلقة فقط بأمن مصر القوميِّ، ثمَّ تقييد حركة السياحة اليهودية في سيناء وشرم الشيخ يقود أكثر قسوة وصرامة، فلا يعقل أن تطبق قيود قاسية وصارمة جدًا وعلى فلسطين غزة في معبر رفح وطار القاهرة، ويمنح الإسرائيليون كل التسهيلات الممكنة.
إذن يمكن تقييد أشكّال التعاون الأمني السابقة مع "إسرائيل"، وهي سيَّاسيَّة عقابية ناجعة تحافظ على أمن مصر من ناحية، وتمنح مصر قوة مواجهة أقوى من السابق مع التدخلات الإسرائيلية في دول القرن الإفريقي، ودول حوض النيل، ودولة جنوب السودان. فمصر كانت تمنح "إسرائيل" تسهيلات أمنية وسيَّاسيَّة واقتصادية وهي تدرك أنّها تضغط على دول النيل للمساس بمياه النيل، ولم تتعلم من تركيا التي تعاقب "إسرائيل" سيَّاسيًا وإعلاميًا جراء تدخلاتها في قضية الأكراد، وتعاطفها مع اليونان بخصوص المسألة القبرصية.
وفيما يتعلق بقضيَّة منابع نهر النيل ودول حوض النيل فهي تأتي في سياق الحلول والمعالجات الإستراتيجية لمصر، ولرئيسها القادم، وتعتبر أحد ملفات الأمن القوميِّ الهامة التي تتطلب معالجتها خطة متكاملة "أمنية، وعسكرية، واقتصادية، سيَّاسيَّة" أيّ عدم وضع الملف بين أمنية كالسابق، أو سيَّاسيَّة فقط، بل هذا الملف يحتاج لخلية طوارئ تقودها وزارة الخارجية المصرية تتكون من "الأمن أيّ خبراء أمن على أعلى مستوى، وعسكري أيّ خبراء ورجال الجيش، وخبراء اقتصاد من خلال مشاريع اقتصادية متبادلة مع دول حوض النيل، والسيَّاسة أيّ على الهرم السيَّاسيِّ المصري من خلال التحرك السيَّاسيِّ الاستراتيجيِّ وليس اللحظي أو الطارئ.
أمام هذه المعضلات الأساسيَّة التي تواجه الرئيس المصريِّ"محمد مرسي" لا يمكن رفع مستوى الآمال والطموحات لسقفها الأعلي، بما أن سبل العلاج الإستراتيجية تحتاج لحفظ إستراتيجية، وليس مسكنات كما كان يحدث سابقًا، حيث كان يتم تسكين المشاكل والأزمات، وليس علاجها، ممّا أدى للانفجار، والثورة.
يتبقى أمام الرئيس المصريِّ عدة ملفات لا تقل أهمية عن الملفات السابقة، وهي تحديد الاستراتيجيات السيَّاسيَّة للعلاقات العربيَّة ومن أيّ منطلقات يتم التعامل بهذه العلاقات، هل تتم وفق السيَّاسات السابقة؟ أم تشهد تغيير في الفهم السيَّاسي لهذه العلاقات.
في السابق كانت تقوم هذه العلاقات بناء على رؤية النظام المصالحة، وليس لمصالح مصر الدولة، وهو ما شُكّل عبً .
أضيف على كامل المواطن المصريِّ الذي كان يدفع ثمن هذه السيَّاسات، وأصبح فاقد لقيمة المواطنة سواء في بلده أو في خارج بلده، وهو ما يتطلب إعادة تقييم لجملة هذه العلاقات، وابعاثها على قاعدة المواطنة قبل أيّ اعتبارات أخرى.وأن تحدّد منطلقاتها من قاعدة الأمن القومي المصريِّ.
أما الثابت الأخير في السيَّاسات المتوقعة مصريًا هي العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، ورغم التغيير في الهيكل البنائيِّ لبنية النظام السابق، والتغيير الكبير مع النظام الجديد، إلاّ أن العلاقات المصرية- الأمريكية، أو المصرية- الأوروبية لن تشهد متغيرات أساسيَّة وثابتة، بل يمكن أن تتطور لمزيدًا من التعاون.
خلاصة الأمر بإمكان الرئيس المصريِّ أن يعيد لمصر دورها الإقليميِّ والدوليِّ المفقود من خلال وضع وصياغة إستراتيجية سيَّاسيَّة تنطلق من المحاور الرئيسية الثلاثة المحايدة-الإقليمية-الدولية، واعتقد أن لدى مصر كفاءات يمكن لها أن ترسم سيَّاسات على أعلى المستويات.
سامي الأخرس
0 comments:
إرسال تعليق