قبل أيام حضرت ندوة في غزة بعنوان " الوضع الفلسطيني الراهن .. اتفاق المصالحة وتنفيذه " وتحدث عن حركة فتح الأخ الكاتب المعروف يحي رباح، وعن حركة حماس القيادي البارز إسماعيل رضوان، والدكتور كمال الشرافي مستشارا للرئيس أبو مازن، والسيد صالح زيدان عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.. وحضر اللقاء جمهور كبير من المهتمين، لكن أغلبهم كان من حركة فتح، أو مناصر لها.. ما أثار استغرابي هو أن الحضور لم يتكلم شيء عندما علق الرفيق صالح زيدان على بند من بنود الاتفاقية، يقول: "أنه في حال عدم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية خلال ستة شهور، سيتم استبدال حكومة التكنوقراط بحكومة وحدة وطنية.." وهذا معناه: أنه قد لا يكون هناك انتخابات.. يتضح من ذلك أن بعض الجمهور الفتحاوي ينتظر بفارغ الصبر تنفيذ المصالحة بأي ثمن كان.. وهذا التيار يشكل صورة قاتمة لما تؤول إليه حال القوى الفلسطينية، ويرجح فكرة المحاصصة بين القوتين الكبيرتين، وإعطاء القوى الأخرى قليل من الفتات.. وتغييب أو تأجيل المشروع الوطني..
المتابع لدور القوى الأخرى في مفاوضات المصالحة يدرك ضعف الفصائل، وعدم تأثيرها في سير المفاوضات، بالإضافة لصمتها وسكوتها عن الأزمات والظروف السياسية والاقتصادية التي لحقت بالفلسطينيين على أثر الانقسام، وسكوتها على الجرائم التي ارتكبتها عناصر حركة حماس في غزة بحق المواطنين والمؤسسات إلى درجة منعت فيها هذه التنظيمات من ممارسة أي نشاط حتى لو كان تعبيرا سلميا عما يجري.. ولن نخجل إن قلنا ( الفوبيا ) أصابت تنظيمات عريقة في كفاحها الثوري.. ويدفعنا بالرجوع إلى السؤال الكبير لهذه التنظيمات: ماذا لو اتفقت فتح وحماس فيما بينهما، دون أن يكون لباقي القوى أي دور يذكر؟ أو تبقى هذه التنظيمات متذيلة كما العادة لحركة فتح؟ وبالطبع تغص حركة فتح بالمناضلين الشرفاء والغير راضين عما وصلت إليه الحال.. وصحيحا أن الرئيس أبو مازن يتبع سياسة حكيمة ومتزنة مع الصراعات الداخلية لكن ذلك كان على حساب حركة فتح وباقي فصائل منظمة التحرير، وقد يكون على صواب؛ لأن تلك التنظيمات لم تقدم طريقا ثالثا يستطيع ضبط التوازن بين فتح وحماس، أو تكون كبيضة القبان حسب المثل الشعبي..
منظمة التحرير الفلسطينية التي عرفت منذ وقت طويل بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني حيثما تواجد ظلت تنقسم تقليديا إلى طرفين متنافسين يمين ويسار حيث يضم اليمين حركة فتح المؤسسة لمنظمة التحرير واليسار الذي يضم الجبهات الشعبية والديمقراطية والنضال والعربية والفلسطينية والقيادة العامة والصاعقة وحزب الشعب الذي كان اسمه الحزب الشيوعي الفلسطيني وحركة فدا التي انقسمت عن الجبهة الديمقراطية.. هذه المنظمات الرئيسية التي ظلت تقود النضال والعمل الوطني الفلسطيني تحت سقف منظمة التحرير الفلسطينية وممثلة في كل مؤسساتها حتى توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل سواء عارض البعض أم قبل لاحقا حيث عودة غالبية قياداتها وكوادرها من الخارج إلى غزة والضفة الغربية، حيث بدأت فتح ممثلة في السلطة الفلسطينية بتنظيم وبناء مؤسسات السلطة الفلسطينية حسب اتفاق أوسلو على أمل أن تصبح هذه المؤسسات هي مؤسسات دولة فلسطينية .. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ! عندما جرت أول انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني عام 1996 لم يشارك من هذه التنظيمات حركة فتح إلا حزب الشعب ومنظمة فدا ولم يحالفهما الحظ بالفوز بأي من مقاعد المجلس التشريعي الذي انفردت حركة فتح بكافة مقاعده، في حينها رفضت حركتي حماس والجهاد وكذلك الجبهتان الشعبية والديمقراطية المشاركة في الانتخابات حيث اعتبرت حركة حماس الانتخابات محرمة شرعيا وإن ظلت هذه الفتوى غير معلنة .. أما حركة الجهاد لم يوجد في برنامجها سوى تحرير الأرض أولا..
حركة حماس التي تأسست في الانتفاضة الشعبية الأولى عام 1988 وتبنت الكفاح المسلح أسلوبا قويا لتحقيق أهدافها ( أي بدأت تجربة العمل المسلح الذي بدأته حركة فتح وفصائل منظمة التحرير منذ عام 1965.. مما كان له أثرا كبيرا في الانتفاضة الشعبية ـ ولا نريد مناقشته هنا ـ سواء كان سلبيا أم إيجابيا ) الانتفاضة الأولى التي أدت إلى مؤتمر مدريد ومن ثم اتفاق أوسلو والذي ظلت ترفضه حماس وعملت على إفشاله حتى بعد تطبيقه على الأرض وساعدها في ذلك موقف إسرائيل الذي كان ومازال يرفض التنازل عن الأرض ودفع الاستحقاقات التي تم التوصل إليها في اتفاق أوسلو الذي بني على أساس تنفيذ قرارات الأمم المتحدة وعلى رأسها قرار 242 و 338 الشهيرين الذين ينصا على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلت عام 1967 وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين ومنح الفلسطينيين حق تقرير المصير بإقامة دولة فلسطينية .. إعاقة إسرائيل لتنفيذ الاتفاقات وظهور الفساد المالي والإداري الذي استشرى في مؤسسات السلطة الفلسطينية التي همشت دور منظمة التحرير الفلسطينية ( مرجعيتها العليا ) زاد من جماهيرية حماس وقوتها في الضفة الغربية وغزة خاصة مع بدء انتفاضة الأقصى وحصار أبو عمار في رام الله الذي أدى إلى استشهاده وانتخاب محمود عباس رئيسا شرعيا للشعب الفلسطيني ورئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية .. وبدأ السيد أبو مازن سياسة جديدة وسعى إلى انتخابات تشريعية ، فدخلت حماس المعركة الانتخابية بعد أن تأكدت من قوتها الجماهيرية، وفوزها أو نجاحها على حساب حركة فتح ، فأصبحت الانتخابات لدى حماس قريبة من مبدأ الشورى في الإسلام كما أعلنت عن ذلك بوضوح، ودخلت المعركة الانتخابية كذلك باقي تنظيمات ما يسمى اليسار الفلسطيني، ورفضت حركة الجهاد الإسلامي المشاركة في الانتخابات..
حركة فتح ظلت تتخبط في صراعاتها الداخلية التي كان الفساد والاستحواذ على المواقع والوظائف هو المنطلق والعنوان الأساسي في برنامجها الانتخابي وإن كان ذلك غير معلن للجماهير، لكنه كان واضحا من خلال تأخير برنامجها الانتخابي، كذلك ظلت الحركة منقسمة حتى آخر لحظة بتقديم قائمتين انتخابيتين لولا تدخل الرئيس أبو مازن في الساعة الأخيرة بتوحيد القائمتين في قائمة واحدة، في الوقت الذي قطعت فيه حماس شوطا كبيرا في برنامجها الانتخابي المنظم وعمل كافة عناصرها فيه... أما اليسار الفلسطيني المتشظي أساسا لارتباطه بحركة فتح ردحا طويلا من الزمن، وفقدانه حليفا قويا هو الاتحاد السوفيتي الذي كان يدعم ليس اليسار الفلسطيني فقط ! بل كل اليسار العالمي وحركات التحرر الوطنية أينما كانت.. ومنذ زمن كبير كانت هناك محاولات عدة لتوحيد اليسار الفلسطيني حتى قبل الانتخابات إلا أنها ظلت تراوح مكانها.. سوى نجاح الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب وفدا بالتوحد في قائمة واحدة للانتخابات هي قائمة ( البديل ) التي حصلت على مقعدين في المجلس التشريعي من أصل مائة واثنين وثلاثين مقعدا، أما الجبهة الشعبية انفردت لوحدها وحصلت هي الأخرى على ثلاثة مقاعد، يضاف لهؤلاء مقعدين للمبادرة الفلسطينية التي لم يعرف إن كان توجهها يساري أم يميني خاصة أن المقعدين واحد للدكتور مصفى البرغوثي الذي خرج من رحم حزب الشعب والآخر للسيدة راوية الشوا ابنة المرحوم رشاد الشوا الذي تزعم البرجوازية الغزية فترة طويلة من الزمن ..! كذلك أيضا الطريق الثالث حصل على مقعدين واحد للدكتور سلامة فياض رئيس الوزراء الحالي وآخر للدكتورة حنان عشراوي التي عرفت بتوجهها اليساري منذ زمن طويل ..؟
بعد فوز حركة حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي حدث اضطراب كبير في ألوان النظام السياسي الفلسطيني إذ بأي لون يمكن أن نصبغ به حركة فتح خاصة أنها ظلت طيلة الوقت تحتضن وتحمي اليمين الفلسطيني وفاز بذلك من هو أقوى منها ؟؟ حاولت حركة فتح أن تقاسم حركة حماس هذه القوة وهذه الزعامة بالاتفاق الذي أبرم في (مكة) إلا أن هذا التقاسم لم يدم طويلا، وبقي اليسار الفلسطيني متفرجا، أو قبل بدور خجول لن يكون فاعلا في حفظ التوازن المطلوب، إذن لا فتح أصبحت تقاسم حماس دورها ولا هي انضمت إلى اليسار حليفه القديم في منظمة التحرير الفلسطينية.. هنا يظهر الخلل واضحا وجليا في دور حركة فتح؛ مما كشف بوضوح ضعفها وتشظيها أمام قوة حماس المنظمة والمتماسكة مما دفع بالأخيرة القيام بانقلابها العسكري على مؤسسات السلطة الفلسطينية التي كانت تسيطر عليها حركة فتح.. هذا ليس معناه أن يبقى اليسار الفلسطيني متشرذما ومتفرجا على ما يجري .. لأنه سيكون مصيره الهلاك في مرحلة لاحقة إذا ما بقي صامتا، وكما اهتزت قوة فتح وتقهقرت سيكون من السهل القضاء على قوة اليسار الضعيفة أصلا..
ربما نستنتج أن حركة فتح قد أعاقت المسيرة الديمقراطية عشرة سنين، وبدلا من أن تقوم حركة حماس بانقلاب ديمقراطي خصوصا أنها فازت بثقة الشعب ديمقراطيا، قامت بانقلاب عسكري مما نسفت كل آمال شعبنا نحو التقدم وتحقيق أهدافه.. وبدلا من التقدم خطوة للأمام أعادتنا خطوات إلى الخلف، وإذا كانت فتح بفسادها قد أنجزت الكثير على طريق الدولة المستقلة؛ فقد قامت حماس خصوصا في غزة بالقضاء على الكثير مما أنجز.. وحتى الآن تكون هي الأخرى قد أعاقت المسيرة الديمقراطية ستة سنوات أخرى.. نحن نفهم أنه لا يوجد حزب عربي حاكم سيتنازل بسهولة عن حكمه، ونفهم أن الديمقراطية ليست من اكتشاف أو من صنع عربي، بل دفعت أوربا ثمنها غاليا عبر خمسة قرون أو يزيد، ولا يوجد في العصر الحديث طريقة سحرية أخرى للحكم أفضل من الديمقراطية، ونعتقد أن عصر الزعامات وحكم الحزب الواحد بدأ يتهاوى، وأن الانتخابات المصرية الأخيرة بدأت تبشر بخير لبروز قطب ثالث ممثلا في (حمدين صباحي)، وها هو العراق يشهد تغيرا في توحيد صفوف اليسار كقطب جديد في الساحة العراقية، وإذا ما جرت الانتخابات الفلسطينية خلال أو بعد الستة أشهر القادمة سنشهد تجمعا ثالثا في الساحة السياسية الفلسطينية يأخذ بعين الاعتبار كل التجارب السابقة لخلق التوازن وتصحيح المسار المطلوب...
0 comments:
إرسال تعليق