أخطأ أرئيل شارون ومعه كبار مساعديه من جنرالات الجيش الإسرائيلي وكبار الضباط في جهاز المخابرات لديه، عندما اعتقد أنه باغتياله وتصفيته لرجالات فلسطين الكبار، وقادة المقاومة الأوائل، ورموز العمل الوطني الفلسطيني، فإنه سينهي القضية الفلسطينية، وسيضع حداً لمقاومة الشعب الفلسطيني، وسيجبره على الركوع والاستسلام، والقبول بالذل والهوان، وأنه بذهابهم سيضعف إرادة هذا الشعب الأبي، وسينسيهم حقهم في فلسطين، وسيقضي على أحلامهم باستعادة الأرض كلها، والصلاة في المسجد الأقصى، وتحرير المقدسات وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية الواحدة على كل التراب الوطني لفلسطين التاريخية، فأمعن شارون وموفاز وباراك وغيرهم في قتل القادة، واستهداف الرجال، فقتل الشيخ أحمد ياسين، وأتبعه بالدكتور عبد العزيز الرنتيسي، واستهدف بالقتل صلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وإسماعيل أبو شنب وأبو علي مصطفى، ولم تستثن صواريخه وقذائفه كادراً سياسياً أو مقاتلاً ميدانياً أو قائداً عسكرياً، بل استهدف الجميع، واغتال كل من استطاع الوصول إليه، وتآمر على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ولكنه جبن عن قتله بصاروخ، وعجز عن استهدافه بقنبلة، ولم يتمكن من النيل منه برصاصة، فعملت مخابراته على تسميمه بصمت، وقتله في الخفاء، فدست له سماً غريباً، يقتل ببطء، ويسري في الجسد بهدوء، ولكنه يقود حتماً إلى الموت، فنالوا منه واقفاً، وقتلوه مقاتلاً، وأسقطوه أرضاً لكن ليغرس فيها، ويستوي سوقه في سمائها، ويثمر نضاله ومقاومته في وطنه حرية ونصراً، وكان شارون وكل الذين كانوا يحلمون بقتل ياسر عرفات، قد نسوا أنه كان يسعى للشهادة ويعمل من أجلها، وأنه سأل الله كثيراً أن يكرمه بها، وأن يجعل ختام حياته شهادة، تبقي ذكره، وتخلد اسمه، وترفع قدره، وتجمعه يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وقد كان له ما أراد وتمنى، شهيداً شهيداً شهيداً.
سبع سنواتٍ مضت على غياب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات شهيداً مكرماً، وقد رحل عن هذه الدنيا وهو يحلم في الدولة والوطن، ويتمنى أن يصلي في الحرم، وأن يدفن في مدينة القدس، فما فرط في أحلامه، ولا تخلى عن أهدافه، وبقي مخلصاً لوطنه وشعبه، رغم الدبابات التي أحاطت بمقره، والجرافات التي وصلت إلى غرفته الصغيرة ومكتب اجتماعاته في المقاطعة، وقد قطعوا عنه التيار الكهربائي، وحرموه من مياه الشرب والخدمة، وضيقوا عليه فقتلوا من بقي معه، واعتقلوا من استطاع أن يخرج من مقره، ولكن عرفات أصم أذنيه عن كل النداءات الإسرائيلية التي كانت تأمل استسلامه وقبوله بشروطهم، وبقي في حصاره واقفاً بشمم، مصمماً بإباء، رافضاً بعناد، لا يقبل أن يهون ويهين شعبه وأهله، فكاد العدو في رحيله، وأعياه في شهادته، وآلمه في صبره، وأوجعه في ألمه، وحط من قدره بكبريائه، وفل من عزمه بإرادته، وأوهى سلاحه بإيمانه، وعقر آلياته بأصالة انتمائه، ومضى شهيداً وهو أعظم ما يكون عزةً وشموخاً، وأصدق ما يكون موقفاً وثباتاً، مضى ليبقى، ورحل ليكون، وارتقى إلى العلى ليرفع شأو وطنه وشعبه.
غاب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات قبل سبع سنواتٍ ومازال قاتله راقداً في فراشه، مستلقٍ على ظهره، لا يقوى على الحراك، ولا يستطيع الإدراك، ولا يعرف ما يدور حوله، يتمنى الموت ولا يناله، ويتطلع إلى الخلاص فلا يستطيع، انفض من حوله مريدوه، وتخلى عنه أهله، وملت منه قيادته، وتمنت رحيله والتخلص منه، فقد أصبح عبئاً عليها وعلى شعبها، وهماً يلاحقها وواقعاً يزعجها، فقد بقي جثةً هامدة، وركاماً من عظام، وبقايا جسد، رائحته منتنة، وهيئته كريهة، ومنظره قبيح، تشمئز منه العيون، وتعافه النفوس، ولا يقوى على النظر إليه أحد، أبقاه الله آية للعالمين، وشاهداً على ظلم الإسرائيليين، وعبرةً لكل الظالمين، فلم ينفعه ظلمه، ولم يسعفه بطشه، ولم تنهض به آلياته، ولم تنجح في شفائه دولته، ولم يصبر على أذاه أركان حكمه، قد شفى الله به غليل الفلسطينيين والعرب، فرأوه طريح الفراش لا يشبهه شيطانٌ مريد، لا الموت يدركه، ولا رحمة الله تذكره، ولا الناس تغفر له، ولا التاريخ يتجاوز جرائمه، ولا فلسطيني سيغفر له ولكيانه ما ارتكب بحقهم من مجازر ومذابح، فاليوم يهزأ الشهيد الجبل الذي لم تهزه الرياح أبو عمار من القعيد الرقيد شارون، ويضحك من حاله ملء شدقيه، فقد أرى الله فيه الشعب الفلسطيني ما يثلج صدره ويشفي غليله.
معاً اليوم يستذكر الفلسطينيون جميعاً الرئيس ياسر عرفات، الذي حمل البندقية الفلسطينية المقاتلة، واعتمر الكوفية الفلسطينية الخالدة، وأطلق شرارة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وكان رائد حركة فتح، التي أوجعت الإسرائيليين طويلاً وأدمتهم كثيراً، ونالت من حياتهم واستهدفت كيانهم، وكان لعملياتها الأولى صدىً مدوياً وأثراً بليغاً، خشيها الإسرائيليون وخافوا من بأسها، وبذلوا جهودهم للتخلص من عملياتها، والنجاة من الموت الزؤام الذي حمله إليهم رجالها، رحل عرفات ولكن بأس شعبه مازال ماثلاً، ورجال فلسطين التي ينتمي إليها لا يزالون أقوياء، يحملون البندقية، وأصابعهم على الزناد، لا يخافون الموت، ولا يهابون العدو، يتمسكون بالثوابت، ويرفضون التفريط والتوقيع والتركيع، فما ضاع جهده، ولا ذهبت أدراج الرياح مبادئه، ولم تذوِ شعاراته، ولم تسقط أهدافه، بل سيمضى الفلسطينيون في ذكراه على العهد، وسيحافظون على الوعد، وستبقى فلسطين في أعناقهم أمانة حتى تعود حرةً مستقلة، لا مكان فيها لمستوطنٍ وافد، ولا لإسرائيليٍ محتلٍ غاصب.
عشق الرئيس عرفات القدس وأحبها، وسأل الله أن يدفن فيها، وتعلق بالمسجد الأقصى وتمنى الصلاة فيه، فتمسك فيها ورفض التنازل عنها، وقال لمفاوضيه إنها ليست ملكاً لي ولا لشعبي فقط، إنها ملك المسلمين وكل الأجيال، فلا أملك حق القرار فيها، فقرروا قتله، وعزموا على التخلص منه، فهو في نظرهم عقبة، وأمام مشروعهم عثرة، وظنوا أنه لم يورث شعبه فكره وعقيدته، ولكنه بحق واحدٌ من الرجال الكبار الذين لا ينساهم شعبهم، ولا تفرط فيهم أمتهم، ويعز على الزمان أن ينجب أمثالهم، أو يكرر شخصوهم، فهم كالطيف في هذه الأمة، وكالنور يبزغ في جوف الظلام، وكالبرق الخاطف سرعان ما يمضون ويختفون، ولكنهم يتركون وراءهم نوراً وضياءاً ونبراساً ينير عتمة الآخرين، ويبدد ظلام المعادين، في انتظار الفجر الآتي ولو بعد حين.
0 comments:
إرسال تعليق