لم يعرف تاريخ الفكر الحديث نظرية اجتماعية،فلسفية، اقتصادية وسياسية، بمثل اتساع الفكر الماركسي. ولم يعرف عالمنا تيارا فكريا عاصفا بمثل التيار الماركسي. ولم يؤثر أي فكر سابق، بالقوة الهائلة التي ميزت الفكر الماركسي منذ اواسط القرن التاسع عشر.
الماركسية عصفت بكل الفكر الفلسفي السابق، بكل النظريات الاجتماعية التي سبقتها،بكل الفكر الاقتصادي والسياسي الذي سبقها.
الماركسية لم ينحصر تأثيرها في بقعة جغرافية محددة، بل شملت عالمنا كله، بكل قاراته، بكل مجتمعاته، بكل طبقاته وفئاته الاجتماعية.لم تظل بقعة جغرافية ، ومجتمع إنساني لم يطوله تأثير الفكر الماركسي.
ان دور الماركسية الفكري والفلسفي في الانقلاب الذي أحدثته في الحياة الإنسانية الحديثة هو شبيه بالدور الذي لعبه العالمين الشهيرين كوبرنيكس وغاليلو في الأبحاث والاكتشافات الفيزيائية.
وأقول بصراحة مطلقة، لا يبدو ان قوة جذب الماركسية في تراجع او ضمور . ما زال الفكر الماركسي يشكل عنصرا مركزيا في حياة عالمنا. لا فرق بين مؤيد او رافض لهذا الفكر.
الماركسية شملت في طروحاتها مختلف المواضيع، من الاقتصاد الى الفلسفة الى الثقافة الى علم الإجتماع الى التاريخ الى السياسة. الماركسية لم تتوقف على التنظير فقط، بل كانت ايديولوجيا ثورية انتفاضية، وهذا ما عناه ماركس بقوله:" ان الفلاسفة لم يفعلوا غير ان فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تتقوم في تغييره". إذن الماركسية تطورت كفلسفة للتغيير الثوري في جميع مجالات الحياة.
يبدو واضحا ان قوة الماركسية منذ بداياتها، تمنع العديد من اتباع هذا التيار، من فهم متغير لجوانب عديدة وهامة من الفكر الماركسي. وهذا أيضا بفعل الجمود العقائدي الذي ساد خلال فترة ستالين، والنهج الملتزم باسلوب ديني بكل التنظيرات السوفييتية. والتجاوزات الخطيرة للقواعد الماركسية التي ميزت حقبة ستالين، والتي رغم ما جرى من اعادة تقييم ونقد لتلك المرحلة، ما زالت سائدة بعقليات الكثيرين من الماركسيين والأحزاب، وعمليا هم عالة على الفكر الماركسي وعلى الحركة الشيوعية ، ومقياسا سلبيا لهذا التيار. ويبدو ان بعض المتحدثين باسم الماركسية يكررون بشكل ببغاوي مقولات تجوزها التطور التاريخي، دون ان يعوا بشكل علمي دقيق اختلاف الواقع اليوم عن منتصف القرن التاسع عشر وما قبله. وان بعض ما كان صحيحا في فترة ماركس، لم يعد يشكل معيارا سليما في وقتنا الراهن، يمكن البناء عليه.
لا اقول ذلك نفيا لصحة تشخيص ماركس في فترته الزمنية ، انما بعض ما كان صحيحا في وقته،وبنى عليه نظريات اساسية في فلسفته، بات منذ زمن بعيد ، يحتاج الى اعادة نظر شاملة ، وطرح بدائل نظرية جديدة. سرعة الضوء تبين انها غير مطلقة وان هناك جزيئات أسرع من الضوء. فهل يجوز ان تبقى قياسات عالمنا مبنية على جوانب خاطئة في نظرية من الأكثر شمولا في التاريخ البشري؟
ما اكتبه ليس اختلافا حول صحة ما كان في الفترة التي صاغ فيها ماركس رؤيته، انما لأن التطور التاريخي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات البشرية، قادنا الى واقع جديد مختلف .
ان من يتعامل مع الماركسية كمقولات دينية، يعيش في اشكالية صعبة، تتميز بجمود عقائدي، وانقطاع عن الواقع الاجتماعي والسياسي. وهذا مع الأسف يميز بعض الأحزاب الشيوعية.
في العلوم تجري انقلابات . قوانين فيزيائية كانت حتى وقت قريب تعتبر نهائية، تبين انها نقضت. وتتطور نظريات جديدة مكانها. ليس نفيا لها انما تطويرا وتجديدا.
ان تطور العلوم يجري عبر نقدها ومحاولة نقضها أيضا. في الفكر يجب ان نفهم ان النقض والنقد هما ميزة للتطور والتطوير ، وليس للنفي والالغاء.
الماركسية بكل عظمتها الفكرية، لم تطرح نفسها كرؤية الهية، انما كفكر انساني محدد بعوامل اجتماعية ، اقتصادية، تاريخية ومعرفية.
تابعت في الفترة الأخيرة مقالات وتصريحات قادة شيوعيين. ومع كل ما احمله من احترام لدورهم السياسي الطلائعي، الا اني بت أشعر بقلق عميق من تمسكهم بمقولات عفا عنها الدهر. والمشكلة الأخطر التي تنبع من ذلك، هو تحويل تلك المقولات الى أسس للبناء الفكري والسياسي والتحليل الاجتماعي واتخاذ المواقف السياسية والاجتماعية من نضالات مختلفة ومن أحداث عديدة، والأخطر أن تلك المقولات تعتبر قاعدة لكل استراتيجيتهم الفكرية، الاجتماعية والسياسية.
المسالة تتعلق أيضا بمدى المام بعض القادة بالنظرية الماركسية. لدي شكوك ان المامهم سطحي جدا. ربما يحفظون بعض المقولات بشكل ميكانيكي. ولكن ملاحظتي الصعبة اني ارى بعدهم المتزايد عن الفكر الذي يدعون انهم ممثلوه وناشروه والضاربين بسيفه.
عندما يؤكد زعيم حزب شيوعي انه ينطلق في تحليله من نظرية الماركسية اللينينية الأممية والطبقية، ويكرر مع كل جملة تمسكة بالمفهوم الأممي والطبقي في تحليله السياسي وصولا الى مواقفه ومواقف حزبه .فمن السهل ان نفهم انه يتعامل مع مجتمع القرن الحادي والعشرين، بمقاييس اواسط القرن التاسع عشر.
بالطبع ترتفع الآن أسئلة كثيرة.
فانا اطرح رؤية دون ان اطرح تبريرها.
ما اعنيه بسيط.
ساتناول نظريتان لماركس لم يثبت التطور التاريخي صحتهما. وهما من الأسس الهامة في الماركسية. ويعتمدها الكثير من الماركسيين بصفتها بؤبؤ العين في مناهجهم السياسية.
اولا نظرية الصراع الطبقي : تطرح الماركسية مسألة الاستقطاب الاجتماعي المتزايد لدرجة التضاد والتناحر بين الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع البرجوازي (الطبقة العاملة من جهة والبرجوازية من الجهة الأخرى)، وصولا الى الصدام التناحري، أي بقضاء طبقة على أخرى، والماركسية في رؤيتها التاريخية تطرح بان التناحر سيقود الى استلام الطبقة العاملة السلطة والقضاء على البرجوازية. الى جانب ذلك وارتباطا بنفس الموضوع طرح ماركس نظرية الأممية ، أي ان الصراع الطبقي يوحد بين عمال العالم، يقوي التضامن الأممي بينهم، ويساعد بعضهم البعض، وينسقون نضالاتهم، ضد برجوازيتهم.أي نقل المفهوم الطبقي من إطاره المحلي إلى إطاره الدولي. وعليه الطبقة العاملة ( البروليتاريا) لا تناضل ضد برجوازية بلدها فقط، بل ضد برجوازية البلدان الأخرى أيضا.
لم يثبت صحة هاتان النظريتان. في عصرنا لم يحدث أي صراع طبقي. والأممية لم تكن الا مجرد شعارات غير قابلة للتنفيذ. لم نشهد وحدة طبقية عمالية ضد برجوازية بلدان مختلفة.الانتماء الإثني والإنتماءات الدينية برزتا بقوة أكبر في جميع أحداث عالمنا. بل نعيش أممية برجوازية تسمى العولمة. كل النضالات الطبقية، لم تتجاوز المطالب المعيشية والاجتماعية، أي لم تخرج عن اطار المجتمع المدني بكل تركيبته، وتلخصت طروحاتها بتحسين ظروف الحياة والخدمات والعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية المختلفة،ولم يطرح أي شعار لاسقاط نظام برجوازي ، بمفهوم استبداله بنظام مختلف، أي نظام اشتراكي. ولم يكن أي صراع طبقي تناحري في تاريخ البشرية منذ بداية القرن العشرين.
حقا هناك تضامن مع شعوب ضد المعتدين من الخارج او القمع السلطوي من الداخل. والتضامن ليس وقفا على الطبقة العاملة، بل قوى برجوازية تتضامن أيضا وترفض أي اعتداء على حقوق الانسان ، وذلك انطلاقا من مفاهيم حقوق الانسان التي اقرت في دساتير الدول الراسمالية ( الاستعمارية) ، وكانت أكثر تقدما من مفاهيم حقوق الانسان في دول المجموعة الاشتراكية ، على الأقل في التطبيق.
الماركسية تتحدث عن شكلان من التناقضات ، الأول تناقضات تناحرية والثاني تناقضات غير تناحرية ( وهذه لن نتناولها الآن).وحسب الماركسية فان التناقضات التناحرية هي بين قوى وفئات اجتماعية متعادية نتيجة وضعها الاقتصادي ومصالحها وأهدافها الجذرية،وهذه ميزة لكافة مراحل تطور المجتمع الرأسمالي وتتخلل كافة جوانب حياته المادية والروحية.
من الواضح ان ماركس في نظرته الطبقية اعتمد على معرفته الجيدة للتاريخ الفرنسي ومنها الثورة الفرنسية (1789-1799م). التي أحدثت تغييرات كبيرة في المجتمع الغربي بشكلٍ عام وفي نظام الحكم الفرنسي بشكل خاص. وكانت لها آثار بعيدة المدى على بقية أوروبا أيضًا. وقد أدخلت الثورة الفرنسية المُثُل الديمقراطية إلى فرنسا لكنها لم تجعل الدولة ديمقراطية. ومع ذلك فقد أنهت الحكم المطلق للملوك الفرنسيين، وجعلت الطبقة المتوسطة قوية. وقد أدت الأوضاع الإجتماعية والسياسية والإقتصادية المتردية إلى الثورة. بدأت الثورة بأزمة اقتصادية حكومية، ولكنها سرعان ما أصبحت حركة للتغيير العنيف.
ثم كانت تجربة ثورة 1848 التي قام بها العمال والطلبة وكانت اول ثورة عمالية. و
وعندما صاغ ماركس مع زميله انجلز «بيان الحزب الشيوعي» (1848) وضع البيان كما كتب لينين لاحقا "الخطوط العريضة لتصور جديد للعالم، وخاصة طرحهما لنظرية صراع الطبقات، و نظرية الدور الثوري التاريخي العالمي للبروليتاريا – خالقة المجتمع الشيوعي الجديد". أي ان ماركس اعتمد على ظاهرة عايشها ، وفيما بعد جاءت كومونة باريس (1871) وهي حركة نقابية وعمالية يسارية، قامت بثورة تعتبر أول ثورة إشتراكية في العصر الحديث ، إستولت على السلطة في فرنسا لمدة شهرين. كل هذا عزز مفاهيم ماركس النظرية حول الصراع الطبقي التناحري. أي اقتبس حالة تاريخية في فرنسا، اعتبرها مقياسا دوليا لا مناص منه حيث تنشا طبقة عاملة مقابل الطبقة البرجوازية برجوازي ، والصراع ألتناحري بينهما هو حتمية تاريخية.
على الورق ، الحسابات سهلة. في الواقع الحياتي الأمور ناقضت توقعات ماركس. لا أقول أخطأ، ولكن التحولات التاريخية في المجتمع البرجوازي، وزيادة الرفاهية، وتطور الطبقة العاملة العلمي والتكنولوجي،ونشوء فئات عمالية إدارية ، من مهندسين ومحامين ومدراء بنوك وموظفين في مختلف المناصب الهامة، وتطور مفاهيم الحقوق العمالية والفردية في المجتمع ، وتطور الخدمات والتأمينات المختلفة، جعل النظام الرأسمالي نظاما ديمقراطيا ليبراليا، نظام رفاه اجتماعي، يقدم من الحقوق الأساسية ، ما تجاوز العالم الاشتراكي بمراحل هائلة.
ثورة اكتوبر (1917) لم تكن انتفاضة عمالية ، بل انتفاضة ساهم فيها الجنود والفلاحين، وروسيا كانت اضعف حلقة رأسمالية، أي ان تطور الطبقة العاملة فيها كان ضعيفا وللثورة أسباب بعيدة عن الصراع الطبقي التناحري.
بلا شك يمكن تحليل المجتمع بالمفاهيم الطبقية، ولكن ليس بمفاهيم الصراع الطبقي التناحري.انما بمفاهيم العدالة الاجتماعية والنضال من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان والمطالب الاجتماعية والخدماتية العامة.ان طرح شعار ثورة اشتراكية اليوم يبدو مأخوذا من رواية عن الخيال العلمي.
كل الصراعات الطبقية اللاحقة لم تكن تناحرية، بل تميزت بقاعدتها الاجتماعية الواسعة من اجل مطالب اجتماعية عامة لجميع فئات المجتمع ، ولم تتخذ طابعا طبقيا او طابع صراع ضد سلطة البرجوازية ، بل طابعا اجتماعيا مدنيا سلميا عاما.
الخطأ هو بناء سياسات الأحزاب الشيوعية على مفاهيم لم تصمد بالتجربة التاريخية، وكانت ظاهرة اوروبية محصورة بدولة معينة، وتركت امتدادها في دول الجوار،المانيا مثلا، ولم تتحول الى قاعدة تاريخية حتمية.
نفس الأمر ينسحب على مفهوم الأممية، لصلته الوثيقة بالمفهوم الطبقي الماركسي.
ما كان صحيحا في تحليل ماركس لظاهرة اوروبية لا يمكن ان يبقى أبد الدهر وكأنه نص ديني مقدس.
نفس الأمر حول البروليتاريا ، التي كانت ظاهرة اوروبية، لم تظهر خارج القارة الأوروبية.مثلا لم تنشأ البروليتاريا في الولايات المتحدة. ومن اسباب نشوء هذه الظاهرة ( البروليتاريا) اقرار قوانين اوروبية حول الأرض التي سلبت الفلاحين المراعي والحقول لحساب التطور الصناعي، وحولتهم الى عمال ملحقين بالصناعة، لا يملكون الا بيع قوة عملهم.
اعتقد ان الموضوع يحتاج الى جهود مشتركة ، لتطوير الطروحات ، وليس اسقاطها. ولم اكتب لأقلل من قيمة الفكر الماركسي وقوته التي لم تتأثر بسقوط أنظمة ادعت انها تطبق الماركسية.
nabiloudeh@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق