يستميت النظام السوري المتهالك في التمسك بالسلطة، ولا يألوا جهداً في ذبح الناس والإيغال في تعذيبهم وترويعهم وتفقيرهم وتجويعهم وتجهليهم وتقويس قاماتهم وسجنهم واعتقالهم ونفيهم وإقصائهم منذ نصف قرن تقريباً، ويحاول عبثاً إيهام الناس بأنه يريد الإصلاح والتغيير وأن قلبه على الوطن الذي تُحاك له المؤامرات ويعبث بأمنه العملاء، وأن العصابات المسلحة تستبيح الوطن والمواطن وتريد تفكيك البلاد وتقسيمها خدمة للصهاينة الأعداء، ويروج لذلك عبر إعلام مُصادر يوجهه بأسلوب خشبي مقزز، ويتعامل مع الدول عبر نظام دبلوماسي لا يجيد إلا التهديد والوعيد ووصم الآخرين بالخيانة والعمالة وتنفيذ أجندة خارجية تريد تقسيم الوطن وعودة استعماره لها.. نظام لا يريد للآخرين أن يروا إلا ما كان يريد فرعون لقومه أن يروا (وما أريكم إلا ما أرى) وعليهم أن يصدقوا ما يوسوّقه أو يرسمه أو يتصوره، وويل لمن ينتقد أو يخالف أو يقول له أنت مخطئ من شقيق أو صديق أو حليف، فهناك سلسلة من المفردات البذيئة بانتظاره، أقلها خائن وعميل ومرتبط بالخارج وتنفذ أجندة إسرائيل وأمريكا والغرب، مما جعل الأصدقاء ينفضون من حوله، والحلفاء يتفككون عنه، والأشقاء يبادرون للتصدي لغيه وسفاهته وحماقاته.
هذا النظام لا يريد أن يعترف بأن الشعب السوري مجّه ولا يريد بقاءه والأشقاء والأصدقاء والحلفلاء يئسوا من إصلاحه، والشعب يتظاهر سلمياً وبشكل حضاري منذ أكثر من ثمانية أشهر مطالباً بالحرية والكرامة والديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة، والوصول إلى الدولة المدنية التي يتساوى فيها كل المواطنين بغض النظر عن العرق أو الدين أو المذهب أو الطائفة أو الانتماء أو الاعتقاد، وفي سبيل ذلك قدم الشعب السوري خلال انتفاضته المباركة الشجاعة ولأكثر من ثمانية أشهر أكثر من خمسة آلاف شهيد وأضعافهم من الجرحى والمفقودين والمهجرين، وهو على استعداد ليقدم المزيد والمزيد حتى تحقيق مطالبه في إسقاط النظام ورحيله بكل أركانه وهيكليته ومسمياته وألقاب رموزه، وقد اقتنع الأشقاء والأصدقاء والحلفاء والعالم كله بأن الداء يكمن في هذا النظام ولابد من استئصاله ليعم الخير والأمن والسلام على ربوع سورية وأهلها، وتتحرر من عاهاتها وأوجعها وأمراضها التي زرعها في جسدها هذا النظام السرطاني العفن، لتعود سورية إلى سابق عهدها قلباً للعروبة النابض ومنارة للحرية ونبراساً للعدالة ورمزاً للديمقراطية، والمشاركة في تقدم الأمم وازدهارها.
وقديماً كتب شاعر المهجر الفيلسوف جبران خليل جبران مقالاً تحت عنوان (الأضراس المسوسة) شخّص فيها الحالة السورية التي ستصل إليها بعد ثمانين سنة من وفاة هذا الفيلسوف الذي كان يقرأ مستقبل سورية المنهكة بهذا المرض السرطاني الذي تعيشه اليوم والذي لا يمكن إصلاحه ولابد من استئصاله فيقول:
(كان في فمي ضرس مسوس, وكان يحتال على تعذيبي فيسكن متربصاً ساعات النهار ويستيقظ مضطرباً في هدوء الليل عندما يكون أطباء الأسنان نائمين والصيدلية مقفلة. ففي يوم وقد نفذ صبري ذهبت إلى أحد الأطباء وقلت له: ألا فانزعه ضرساً خبيثاً يحرمني لذة الرقاد ويحول سكينة ليالي إلى الأنين والضجيج. فهز الطبيب رأسه قائلاً: من الغباوة أن نستأصل الضرس إذا كان بإمكاننا تطبيبه. ثم أخذ يحفر جوانب الضرس وينظف زواياه ويتفنن بتطهيره من العلة.
ولما وثق بأنه صار خالياً من السوس حشا ثقوبه بالذهب الخالص ثم قال مفاخراً: لقد أصبح ضرسك العليل أشد وأصلب من أضراسك الصحيحة.
فصدقت كلامه و ملأت حفنته بالدنانير وذهبت فرحاً.
ولكن لم يمر الأسبوع حتى عاد الضرس المشؤوم إلى تعذيبي وإبدال أنغام روحي بحشرجة الاحتضار وعويل الهاوية.
فذهبت إلى طبيب آخر وقلت بصوت يعانقه الحزم: ألا فاخلعه ضرساً مذهباً شريراً, ولا تعترض "فمن يأكل العصي لا كمن يعدها".
فنزع الطبيب الضرس وكانت ساعة هائلة بأوجاعها ولكنها كانت ساعة مباركة.
وقد قال لي الطبيب بعد أن استأصل الضرس وتفحصه جيداً: لقد فعلت حسنا, فالعلة قد تحكمت بأصول ضرسك هذا حتى لم يبق رجاء في شفائه.
وقد نمت في تلك الليلة, ولم أزل في راحة والحمد للخلع والاستئصال).
لقد أصاب جبران خليل جبران عين الحقيقة ووضع الأصبع على الجرح والنقاط على الحروف عندما شخّص الحالة السورية التي نعيشها اليوم في مقاله، فهو لم يرتح من آلامه وأوجاعه إلا باستئصال الضرس المسوسة، وهذا ما على الشعب السوري فعله فلا راحة ولا شفاء للجسد السوري إلا باستئصال هذا النظام السرطاني الذي أفسد البلاد والعباد وأشاع فيها الظلم والاستبداد.
0 comments:
إرسال تعليق