موسكو ودمشق وجهان لنظام واحد/ محمد فاروق الإمام

يعتقد الكثيرون أن روسيا التي ورثت الاتحاد السوفييتي بعد تفككه وتشرذمه قد دخلت نادي الديمقراطية من أوسع أبوابه، حارقة المراحل الطويلة التي فصلتها عنه لسنين طويلة وهي أسيرة الحكم الشيوعي الشمولي الذي دام أكثر من 70 عاماً، لكن الحقيقة أن الذي حصل هو تفكك البلدان التي كانت منضوية تحت مظلتها والانعتاق من العبودية والأسر التي عاشته في ظل قبضتها الحديدية، وجعلتها دولاً منهكة فاشلة وشعوب مقهورة وذليلة وفقيرة ومتخلفة، فالاتحاد السوفييتي التي طويت صفحته هو حاضر اليوم في موسكو من خلال مجموعة من الشخصيات الشيوعية التي تتبادل حكم روسيا بالتراضي وتتداول حكمه بالتوافق.
ففي يوم 3 تشرين الثاني من عام 1993 تحولت الأزمة الدستورية في روسيا إلى صدام مسلح بين أنصار مجلس الدوما (البرلمان) وقوات الشرطة والأمن والجيش، وبذلك وضعت روسيا على حافة الحرب الأهلية.
وانتهى النزاع بين السلطة التنفيذية التي كان يمثلها آنذاك الرئيس الروسي بوريس يلتسين والسلطة التشريعية بزعامة روسلان حسبولاتوف مؤيداً من نائب الرئيس الروسي روتسكي بشأن مسيرة الإصلاحات وسبل بناء الدولة الجديدة انتهى بتعرض مقر البرلمان الروسي لنيران الدبابات. وجاء المرسوم الرئاسي القاضي بحل مجلس نواب الشعب بحجة محاولة قلب النظام الديمقراطي والعودة إلى الشيوعية.
في حين كان الخلاف بين السلطة التشريعية ويلتسين يكمن في اختيار النموذج الاقتصادي للانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية. وقد اختار البرلمان النموذج الانتقالي المرن بصفته نموذجاً أوروبياً مقبولاً. بينما كان يلتسين يصر على النموذج الأمريكي الذي سرعان ما صار يتعطل، الأمر الذي تسبب في تدهور الاقتصاد.
وكانت حركة يلتسن انقلاب فعلي على الديمقراطية والعودة بروسيا إلى حقبة الحكم الشمولي مجدداً ولكن دون الجمهوريات التي تمكنت من الانفلات من قبضة روسيا وتأسيس جمهوريات مستقلة ديمقراطية انضوت بعضها في مجموعة الاتحاد الأوروبي.
كان عهد حكم يلتسين فترة مظلمة في التاريخ الروسي الحديث لم يشهد الروس مثلها حتى في ظل الاحتلال النازي أثناء الحرب العالمية الثانية - أو قبل الثورة البلشفية - وهي فترة شهدت انتشار الفساد، وانهيار اقتصادي هائل، والمشاكل السياسية والاجتماعية، وهذا دفع يلتسين إلى البحث عمن يضمن له تقاعده في مأمن من احتمالات الملاحقة بتهمة الفساد وتبديد أموال الدولة، ليجد ضالته في شخص فلاديمير بوتين الصموت الغامض الذي خرج من معطف لجنة أمن الدولة (كي جي بي) ليعرض عليه خلافته مقابل ضمان مستقبله وأفراد عائلته إلى جانب الكثير من الامتيازات المادية.
وقبل بوتين بالصفقة التي جرى تنفيذها على مراحل بدأت بتوليه رئاسة الحكومة وانتهى بإعلان الرئيس يلتسين استقالته وتكليفه فلاديمير بوتين للقيام بأعمال الرئيس حتى انتخابه في عام 2000 رئيسا للدولة الروسية، وتمكن من الفوز بولاية ثانية وبقي حتى عام 2008، ليخلفه في الحكم صديقه ورئيس وزرائه ديمتري ميدفيديف، الذي عينه رئيساً للوزراء، وبالتالي يمكننا أن نقول أن بوتين لم يغادر الحكم بل بقي الرجل القوي الذي يحكم روسيا فعلياً من خلال منصبه الجديد.
شغل فلاديمير بوتين منصب رئيس الوزراء وعينه على الرئاسة التي استمرأ تبوأ منصبها، وهو يأمل في العودة إلى الكرملين واستئناف مسيرته التي بدأها مع مطلع هذا القرن، ويبرر دستورية ومشروعية طموحاته بتأكيده أنه وخلفه ميدفيديف لا ينويان القيام بأية خطوات من شأنها انتهاك نصوص الدستور الروسي. وعليه فإن توصل الزعيمان إلى اتفاق نهائي على اختيار المرشح من بينهما للانتخابات الرئاسية في عام 2012، يشير إلى توافقهما على لعبة تبادل المناصب والأدوار؛ وعليه فإن روسيا لن تشهد في الانتخابات الرئاسية المقبلة تنافساً حقيقياً؛ لأن توافق الثنائي الحاكم لا يسمح بالتنافس، الأمر الذي يطرح أسئلة كثيرة حول الديمقراطية في روسيا، وحول تبادل السلطة والنفوذ بين أقطاب الحزب الحاكم، مما يضع عودة بوتين إلى منصب الرئاسة نهاية لتمثيلية سياسية استمرت لنحو أربعة أعوام، فقد أخبر الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف في الرابع والعشرين من سبتمبر الفائت مؤتمر حزب روسيا المتحدة الحاكم بأن فلاديمير بوتين سوف يذهب إلى الكرملين في أعقاب الانتخابات الرئاسية المقبلة في آذار من عام 2012، بينما أخبرهم بوتين بأن ميدفيديف سوف يظل في منصب رئيس الوزراء وزعيم حزب روسيا المتحدة.
وتنتقد قوى المعارضة الروسية توجهات بوتين ومدفيديف التي تغالي في إشادة نظام مركزي، يُعطل المبادرات المحلية والاجتماعية، ويلحق الضرر ببنية مؤسسات المجتمع المدني، فيما يعتبر بوتين أن روسيا بحاجة إلى فترة زمنية لإتقان ممارسة الديمقراطية الحقة، وهو يخفي في توجهاته حقيقة معاداته للممارسة الديمقراطية، ولا يختلف في هذا الخصوص عن أطروحات وتوجهات الرئيس ميدفيديف.
من هنا نتفهم مواقف روسيا المعادية للثورات والانتفاضات التي تجتاح العديد من البلدان العربية منذ نهاية عام 2010، التي تطالب بالحرية والديمقراطية، وتقف إلى جانب الديكتاتوريات المستبدة الحاكمة من خلال أحزاب شمولية تدعمها، فقد وقفت إلى جانب القذافي حتى سقوطه، واليوم تقف إلى جانب حاكم دمشق بشار الأسد ونظامه الاستبدادي الشمولي، مغمضة عينها عما يقترفه هذا النظام بحق شعبه من مذابح ومجازر لأكثر من ثمانية أشهر سقط خلالها ما يزيد على خمسة عشر ألف متظاهر سلمي بين قتيل وجريح، واختفاء واعتقال وسجن وتهجير عشرات الآلاف بحسب ما جاء بتقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية والعربية، ووصفها بأنها جرائم ضد الإنسانية تستحق إحالة مرتكبيها إلى محكمة العدل الدولية، وتقف إلى جانبه في المحافل الدولية وتستعمل حقها في نقض أي قرار أو مشروع يوقف آلة القتل الجهنمية التي يقمع بها النظام السوري شعبه، ولا تتوانى عن دعمه عسكرياً ومالياً ولوجستياً بهدف تمكينه من كسر إرادة الثائرين على حكمه ونظامه، ولا يتردد مسؤوليها عن كيل التهم لهذه الثورة السلمية المباركة تماهياً مع فبركات النظام ودعاويه الباطلة وأكاذيبه الصريحة الفاضحة، والتي كان آخرها قول وزير خارجيتها لافروف من أن العملية التي قامت بها مجموعة من الجيش السوري الحر التي استهدفت مقر المخابرات الجوية في الزبداني، الذي يقوم بقتل وتعذيب النشطاء والمعارضين السوريين حتى الموت، يشبه حرباً أهلية حقيقية.
من هنا فإننا نتفهم الدوافع وراء تأييد موسكو لدمشق.. كون من يقود الحكم في موسكو لا يختلفون عمن يقود الحكم في سورية فالشبيه بالشبيه يتمثل!!

CONVERSATION

0 comments: