في الثورات و آلياتها، مصائرها وحواراتها الداخلية، حدود ساحاتها وملامح أبطالها، المتناسخين في فصولها والمتّحدين خلف شعاراتها، نكتشف أنّ الرأسمالية التي نفت عصر "الملاحم"على حدّ تعبير اسحق دويتشر، قد خلقت عبر ميكانيزم قمعها وقهرها الداخلي، والمُصَّدر لهامشها، أشكال جديدة لأسطورة هي الأقرب الى الواقع، ﻷنها خرجت من عالم الرموز الميثولوجية ومدن اليوتوبيا الفردوسية، لتتجه قبل الساحات الشبابية صوب مملكة معارفهم، وبداية مملكة تحرّرهم من خلال ثائر يضغط على الزر اﻻلكتروني، فالشرارة التي أحرقت سهلاً على حد تعبير زعيم الثورة الصينية (ماوتسي تونغ) تحوّلت إلى الزر الإلكتروني الذي أسقط حكومة وأنهى دكتاتوراً وتجاوزه.
إنهم ثوّار جدد، لم ينطلقوا من متاريس الطبقات وﻻ من غابات رجال حرب العصابات... إنهم ثوّار عصر العولمة وعوالم تخلق ألف ثورة، ثوّار تم توصيفهم بـ "ثوار الفيس بوك" الذين غيَّروا المسرح بل والحدث بكامل تفاصيله، فالثورة معهم ومن خلالهم وبعد نهاية الأسطورة التي كانت تفسيراً طفوليّاً لنظرة الإنسان لذاته ولما يحيط به هي بداية لأسطورة مفسّرة للعلم الطبيعي والاجتماعي وبأدواته.
الثورات، من القرمطي حمدان والخرّميّ بابك، لحين آخر ماويّ أو جيفاريّ مروراً بمقتحمي السماء من بوابات الكومونة الباريسيّة، كانوا ضمن حدث وصيرورة تاريخية ﻻ تخرج عن إطار القصة أو المسرحية. فكان هناك دوما الكاتب ممثلاً بـ" منظّمة" أو "حزب ثوري"، وأبطال مغامرون "ثوّار المدن" أو "رجال حرب العصابات الثورية" إضافة لجمهور يتابع المسرحية، وفي أفضل الأحوال فإن الفصل بين الممثلين والجمهور يمكن اختراقه جزئيا كما الحال مع ربيع الديمقراطية في أوروبّا الشرقية وهذا يذكرنا بمحاولة الأب الشرعي للمسرح الواقعي اﻻشتراكيّ حينما حاول ردم المسافة وهدم الحاجز بين الجمهور والمسرح.
شرارة الزر الإلكتروني التي أحرقت عواصم الدكتاتوريّات العربية بدءا من تونس ومرورا بمصر وليبية واليمن وليس انتهاء بثورة شعب سوريا الحر ضد أعتى دكتاتوريات العصر الحديث أعادت إنتاج قراءاتنا للمفاهيم المتوارثة، فتراجع دور الحزب وتقدّم الشباب، تراجع دور الطبقة وتقدم دور الجماهير، تغيّرت نظرتنا للـ "بؤرة الثورية"، ليست هي جبال جيفارا وغابات هوشي منه، هي الساحة والحارات التي استيقظت في الليلة الثانية بعد الألف. الزر الإلكتروني أعاد مفاهيمنا للأصدقاء والأعداء، الرئيسيين منهم والثانويين، بل ظهر هناك أعداء جدد يضافون لأجهزة القمع إن لم نقل هم الأكثر عداءً للثورة، إنهم المرتزقة من شبيحة الإعلام الإلكتروني وخبراء اختراق مواقع الفيس بوك والبريد الإلكتروني.
لقد فرض ثوّار الفيس بوك أسئلة مازالت لم تطرح بعد على صعيد توثيق الثورات. فالثورة الروسية كتب عنها ووثّقها (جون ريد) بأيامه العشرة التي هزّت العالم، أو (تروتسكي) الذي كتب في تاريخ الثورة الروسيّة، أو (جيفارا) الذي وثق الحدث في مذكراته.
كتابة تاريخ الثورات المعاصرة (ثورات الشباب) بحاجة إلى جهد خارق، فتوثيق موبايلات الشباب صوروهم المرسلة للفضائيات وتوثيق الحدث في مئات الصفحات الشبابية للثورة يحتاج إلى أكثر من (ريد) أو (تروتسكي) فالثورات قبل ثورات الشباب كانت تأخذ شكلا عموديا وفي أفضل الأحوال يتخذ شكلاً هرمياً، في حين أن الثورات الشبابية اتخذت شكلاً أفقيّاً نتيجة لحجم المشاركة الجماهيرية من جهة وﻻستمرارها لفترات طويلة من جهة أخرى، كما هي الحال مع الثورات الليبية واليمنية والسورية.
بسرعة إيقاع وتناغم الزر الإلكتروني ـ إيجازا لتراكمات التطورات العلمية والتكنولوجية ـ ومع اللمسة الشبابية ـ رمزاً لتراكم المقموعين والمهميشن ـ تحوّل الناس البسطاء، بل وحتى الأمّيين منهم إلى مراسلين يرسلون موادّهم عبر الفيس بوك والتويتر وكاميرا الموبايل إلى كُبرى وسائل الإعلام العالمية. الثورات الشبابية خلقت الإعلام الشعبيّ، الذي أضاف نبضة الحقيقة للإعلام الموجّه برأس المال الماليّ.
هل قامت الثورات الشبابية بدمقرطة اﻻعلام الموجّه، أم أنّ سلطة رأس المال المُنتج لوسائل الإعلام دخلت ساحات الشباب بغرض احتواءها أو توجيهها حسب متطلبات تراكمها النقدي وتراكماتها الاجتماعية التي تنتهي بمقبرة تم تسميتها بنهاية التاريخ؟
للزر الإلكتروني الذي أحرق تاريخاً للقمع وسلسلة للثوارث مفاجآت في الطريق، وما ساحات الغرب التي رفعت شعار "احتلوا وول ستريت" إﻻ جزء من الشرارة الإلكترونية التي ستغيّر وجه التاريخ، فالتاريخ "بداية" وليس نهاية كما أعلن (فوكوياما)، وبداية التاريخ تبدأ بأغنية. فالأغنية حينما تمتزج بالعمل الإنساني وبشكل أدقّ بالإنتاج فإنّها موحّدة للنسق العام لحركة المنتجين، فكيف الحال إن جمعت الأغنية الجماهير في ساحات الثورة؟
"هيلا هوب هيلا هيلا هيلا... هيلا هوب هيلا هيلا هيلا" هي الأغنية التي يغنيها الصيادون، وكانت قبلها أغانٍ تجمع المزارعين في حقول الحصاد، وقبلها أصوات إنسانية تجمع البشر البدائيّين حينما يرمون السهام والرماح كي تنطلق سويّة صوب الفريسة. الأغنية وبشكل أعمّ الفن كان لها دور في العملية الإنتاجية لحين تحوّل الإنسان إلى جزء من روبوت رأسمالي بلا مشاعر. فهل فقد الإنسان ذاته بعد أن ربح العالم كلّه؟
هي حقيقة، لولا روح الثورة والجين الذي نحمله عبر كروموسومات جبل أولمب والثورة البرومثيوسية، ولولا ثورات الشباب في منطقتنا والتي حملت أجنحة صوت شبيبتنا روحاً للثورة لما تلقفه شباب الرأسماليات الغربية فكانت الصرخة "احتلوا وول ستريت" بديلا عن شعار "يا عمال العالم اتحدوا".
الثورات الشبابية أعادت للأغنية الجماعية دورها كمنتجة للثورة، بل وسيلة إنتاج ثورية. الأغنية الجماعية لشابات وشبّان الشرق أعادت مفهوم الفن في منطقتنا بل وفي العالم أسره، حينما تغني الآلاف المتوحّدة اغنية لسميح شقير، أو لبقيّة (لوركات) ثوراتنا، فإننا بحاجة الى (أرنست فيشر) كي يكتب مجدّداً كتابه "ضرورة الفن".
الثورة ضرورة إنسانية كي يكسب الإنسان نفسه، ساحات الجمع في سقيفة الشباب بداية لكي يعود الإنسان لذاته بعد أن خسرها في مسيرته لامتلاك العالم كله.
الوجيز في الكلام، قال (ماركس): "حين الثورة لن يخسر العامل سوى قيوده"، وقال الشباب حين الأغنية الجماعية في ساحات السلطة الشبابية، لن نخسر سوى تكلّس تاريخنا ونربح من جرّاءها سرّ الخلود الذي بحث عنه كلكامش...
الثورة في ساحات الشباب إعادة لمفهوم العمر والزمان، كما هي إعادة لمفهوم الثورة والطبقات.
موقع منارات
www.manaraat.com
0 comments:
إرسال تعليق