1 ـ مواعيد عرقوب
خارج نطاق مراجعات الدوائر الحكومية قابلت زملاء قدامى وأصدقاء ومعارف ربطتني بهم روابط وعلاقات متباينة فأحدهم كان زميل الدارسة في دار المعلمين العالية في فترة الحكم الملكي . لم يصعد كثيراً زمان البعث لكنه لم يصبه ما أصاب الكثيرين من زملائه من أساتذة الجامعات العراقية . كان خبيراً في لعبة التوازنات كما كان متحفظاً في علاقاته مع الآخرين وفي عموم مسلكه . لم يصعد في أفضل ظروفه إلى أكثر من معاون عميد أو رئيس قسم وكان راضياً بما قُسمَ له . كان دائب السؤال عني فيما سلفَ من سنين خصبة وعِجاف . عرف في سفرتي الأخيرة أني في بغداد فترك رقم تلفونه مع إحدى قريباتي وهي من زميلاته السابقات في جامعة بغداد عارضاً أنْ نلتقي . عرفت أنه اليوم يمارس مسؤولية حسّاسة في جهة عالية فقلت لقريبتي أمامنا فُرصة جيدة لعل هذا الزميل القديم يفيدني في أمر ما وفي مرحلة ما من المراحل المتبقية في طريق إسترداد حقوقي التقاعدية . زرناه في بيته وكان الإستقبالُ وديّاً حاراً إذْ إفترقنا لعقود وعقود . سألني عن موضوعي فشرحت له ما أراد . قال إذا وصلت معاملتك إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي خابرني . حين بلغت معاملتي أبواب هذه الوزارة خابرته فلم يبدِ أي إستعداد لمتابعة الموضوع واكتفى بالقول : إنها ستمشي لوحدها ! شكرته ولم أتصلْ به فيما بعد .
2 ـ وفاء البنات
شتّان ما بين زميل سابق وأستاذ جامعي يمارس اليوم مسؤوليات غير قليلة الجسامة وفتاة تعمل مدرّسة في إحدى كليات جامعة بغداد . لم نلتقِ قبلاَ سوى على صفحات النت لأمور تتعلق بإختصاصها ومستقبل دراستها . عرفت أني سأزور العراق فأصرّت أنْ تراني . لم تتوقف الإتصالات التلفونية بيننا وأنا في بغداد تسألُ عني وعن سير المعاملات وتأمل في لقاء حتى صادف أنْ كنتُ منتصف يوم خميس في مكتب معاون عميد كلية العلوم للشؤون العلمية إذْ أخبرتني عَبرَ الموبايل أنها في الجادرية فقلتُ لها حَسَناً ، أنا كذلك في الجادرية وفي المكان الفلاني . بعد فترة قصيرة فاجأتني لحظةَ مغادرتي مكتب معاون العميد فعرفتني قبل أنْ أعرفها . تصافحنا وتبادلنا السلام ثم قادتني إلى كافيتيريا وقدّمت لي الهامبركر مع الشاي ثم القهوة المُرّة وما كنتُ لأصدّق ما كان يحدث أمامي . شابّة يافعة طويلة القامة كل ما فيها جذّاب وجميل لم تلتقِ بي سابقاً تكّرمني كل ذاك التكريم وتحتفي بي وتعاملني كأب حقيقي . أزفَ وقت المغادرة فعرضت عليها أنْ تصطحبني في سيارة التاكسي لإيصالها حتى باب بيت ذويها فقبلتْ الفكرة . ما كان أعظمها في نظري وما كان أرفعها قَدْراً والوفاء والشرف يرسمان ملامح شخصيتها وتقاسيم وجهها السمح الكريم . ما تفسير الفرق بين سلوك الناس وما أسباب هذا الفرق ؟ طبيعة الإنسان الأولى والطينة التي جُبلَ منها أم تعقيدات الظروف السياسية وتقلبات الزمان ثم حركة المصالح وإتجاهات الريح ؟ لم يُقدّم الأستاذ الذي زرته في بيته إلاّ ربع قدح من مشروب الميراندا ( نعم ، رُبْع كلاص ! ) أعقبه ستكان شاي واحد فقط لم يعرض غيره ! صرت ساعتها أردد قول المتنبي :
صَحِبَ الناسُ قبلنا ذا الزمانا
وعناهمْ من أمرهِ ما عنانا
لا ينسى رجلٌ مثلي من أمثالك يا فتاة وسيّدة نفسها وتصرفاتها فهل هي التربية الشخصية أم التربية العائلية أو كلتاهما معاً ؟
3 ـ وفاء الكُتّاب ورجال الفكر والثقافة
زارني في بيتي ولمرتين الإنسان والمفكّر والكاتب الرائع الأستاذ وجيه عبّاس الموسوي ، أبو علي . كان اللقاءان مثل خطفة خيال ! أهذا هو وجيه عبّاس نفسه الذي واكبتُ مطالعَ كتاباته الأولى وما كان الرجل يومذاك معروفاً إلاّ للقلّة القليلة من الناس ؟ كتبتُ له يومذاك معرباً عن إعجابي بكتاباته وشجعته على المضيّ قُدُما في نهجه وأسلوبه في الكتابة . ردَّ على رسالتي فوراً شاكراً وكان رده في غاية الأدب والتواضع مع ثقة عالية بالنفس والمستقبل . إتفقنا على أنْ نلتقي في شارع معين أمام مخزن معين في حي أور وكان اللقاء الأول إذْ شخّصته على الفور فوجهه هو هو كما هو معروف في الكثير من وسائل الإعلام لا تُخطئه عينُ الرائي أبداً . كان اللقاء الأول في بيت أقاربي قصيراً مختصراً شرب فيه فنجان قهوة لا أكثر لكنه قدّم لي كتابيه الضخمين الأول بعنوان ( عولمة بالدهن الحُر / 1040 صفحة ) الذي نشره تباعاً على شكل حلقات قرأت أغلبها أو جميعها في العديد من المواقع . كتابه الثاني بعنوان ( هكذا تكلّمَ بابُ فاطمة / 575 صفحة ) جديدٌ عليَّ جلُّ ما فيه. تصفحته في بعض الأماسي في البيت وقرأتُ منه ما تيسّر وما سنحت لي به ظروف البيت والصحة . يعرض الأستاذ وجيه في هذا الكتاب نظريات أو فرضيات أو وجهات نظر جديدة جريئة في مسائل قديمة خاض فيها كثيرون قبله فيما يخص خلافات مستعصية وجدت لها المناخات الملائمة بعد وفاة نبي الإسلام محمد بن عبد الله . الجديد هو تفسيرات أبو علي الأكثر من جريئة وقد قلت له في اللقاء الثاني إنها تفسيرات ووجهات نظر قابلة للنقاش والجدل . في لقائنا الثاني جاءنا تحت قيادته سيارة فورد جميلة رباعية الدفع . في هذا اللقاء كان أبو علي أكثر إنفتاحاً فتناقشنا في أمور شتّى والحديث معه مُغرٍ لا يُملُّ . عرض لي مشروعاً ثورياً غير مسبوق يتناول فيه قضيه إكتشافه لوزن أو بحر أو تفعيلة جديدة تنتظم آي السور القرآنية قال إنه بصدد نشر تفاصيل هذا الكشف وإني شخصياً أنتظر ما سينشر الأستاذ وجيه بفارغ الصبر لأني مهتمٌّ بمسألة موازين الشعر وإيقاعاته الوزنية وغير الوزنية . وجدتُ أبا علي بحراً ووجدته موسوعة ثقافية متعددة الجوانب ثم وجدته شاباً خجولاً كثير التواضع لا يمتُّ بأيّما صلة لموضوعات ما ينشر على الملأ من صرخات وفضائح وشتائم محسوبة وتعبيرات [ سوقية فيها سباب وفشار فاضح ] . إذا ساعدتني الظروف اللعينة المتقلبة فلسوف أكتب عن بعض ما ورد من مقالات في كتابه الثاني ( هكذا تكلم باب فاطمة ) . وجيه عباس عالم متفرّد وإنسكلوبيديا يفتخر العراق بها وبأمثالها .
لم ألتقِ الأستاذ وجيه قبلاً فما تفسير ميله للقاء بي في بغداد ؟ كان دائم السؤال عني عن طريق إبنتي قرطبة والسلام عليَّ ثم فاجأني ذات مساء الأستاذ وفاق الجصّاني بأنْ بلّغني سلامَ وجيه عبّاس . نعم ، الحديث عن وجيه عباس حديث ذو نغمة ومذاق خاصين لذا عاهدتُ نفسي أنْ أكرّسَ القدر غير اليسير من جهدي للكتابة عن بعض مقالات وأطروحات كتابه الثاني ( هكذا تلكم بابُ فاطمة ) .
4 ـ كرمُ كرامِ النفوس ووفاءُ كريماتهم
ذكرت في بعض الحلقات السابقة أنَّ مَرَضي المُفاجئ حالَ دون تلبيتي لدعوة على الغداء تفضّلت بها عليَّ إحدى العوائل الحلاوية العريقة . قبلت الدعوة إبتداءً وكنتُ مسروراً أني سأتشرف بالتعرف عن كثب على ربِّ هذه العائلة وأبنائه وبناته وإني سأفتخر وسأفاخر ما حييتُ أني كنتُ ضيف هذه الأسرة الكريمة . تبادلنا الأحاديث التلفونية واتفقنا أنْ أزورهم يوم جمعة فالجمعة عطلة لا دوامَ رسمياً فيها . ثم رتبّت برنامج السفرة للحلة أنْ أصلها بعد ظهر الخميس كما نسّقت مع بعض أقاربي هناك أمر مبيتي وأنْ ألتقي مضيفيَّ نهار الجمعة على أنْ أغادر الحلة صباح السبت . لكن ... تجري الرياحُ ... سقطتُ فجأةً مريضاً في أشدِّ حالات المرض ألماً ومعاناةٍ فاتصلت بهذه العائلة معتذراً أني لا أستطيعُ تنفيد مشروع زيارتهم في الحلة فتأسفوا وتفهّموا ظرفي وحراجة حالي . ألمْ أقلْ إنَّ الناسَ مختلفون باختلاف طبائعهم وتربة نشأتهم والمحيط العائلي الذي تربوا فيه ؟ لماذا حرصت هذه العائلة الأكرم من كل كرم أنْ تستضيفني وأنْ أجرّب طعامهم وأن يروا إنساناً مثلهم حلاوي الأصل ترك الحلة في آب عام 1962 ؟ إنه الدم النبيل يجري في عروقهم الأصيلة حاملاً أقوى وأنقى الجينات فلهم مني التقدير والتبجيل والشكر الجزيل .
0 comments:
إرسال تعليق