سيادة الرئيس أم سيادة الوطن؟/ محمود شباط

طال عمر شعار " لاصوت يعلو فوق صوت المعركة" عشرات السنين. استطال إلى أن هرم وشاخ. في كنف ظلمه وظلاميته عشنا أذلاء مطواعين خانعين خائفين على لقمة العيش ومن عتمة السجن أو اجتثاث الروح. ملايين الشباب العربي ترعرعوا وتخرجوا ودخلوا سوق العمل وتزوجوا وأنجبوا تحت تلك المظلة السوداء القاتمة المطلية بقشور النضال واسترجاع فلسطين والاسكندرون وعربستان. شريحة عريضة من الشعوب العربية انخدعت وصدَّقت مطلقي الشعارات وناصرتهم وآمنت بهم. البعض خاصم أصدقاءه وأحباءه من أجل الزعيم المفدى المتاجر بالشعار، بينما قلة قليلة واعية من الشعوب كانت حذرة متيقظة واعتبرت الشعار مجرد حقنة أيديلوجية تخديرية من حقن القومجيين الذين أتخموا البنوك الأجنبية بأرصدتهم وذهبهم و نهبهم لخيرات وآثار وثروات أوطانهم وإثرائهم على حساب فقر وتخلف مواطنيهم.
أولئك المتاجرون بالقضية أدمنوا توقيع الاتفاقيات مع العدو تحت الطاولة بيد مرتجفة خوفاً من العدو وتخوفاً على كرسي الحكم، يوقعون بيد تمسك بقلم مترع بحبر الممالأة والإذعان ومهادنة العدو والقبول بكل ما يطلبه بينما اليد الأخرى ترفع شارة نصر مزيف تُسَوِّقه أبواقُ النظام بكفاءة، ولصرف أنظار الشعوب عن مرارة الهزائم والخيبات تتحول اليد التي كانت ترفع شارات النصر الخلبي إلى قبضة تهديدية فولاذية نارية لكتم أصوات وأنفاس من يجرؤ على مجرد التفكير بنطق الحقيقة أو تخيل نفحة من الحرية كما ينعم بها بقية خلق الله.
مجرد همسة بالاعتراض على ما يقرره أصغر عنصر أمني يعتبر من "الكبائر" . فما بالك باعتراض على نهج "مقدس منزل" تتقيأه القيادات السياسية التي يمسك بزمامها قائد واحد فرد صمد وإلى الأبد. سوف يندرج إي اعتراض على من انتخبه مدفع الدبابة وفرضه علينا كولي أمر ضرباً من ضروب الخيانة والتعامل مع العدو ودعوة للتدخل الخارجي. سوف يتاجر المتاجرون بالحفاظ على السيادة ، ولكنهم لن يجرأوا على البوح بحقيقتهم بأنهم حريصون على سيادة الحاكم وليس على سيادة الوطن.
مجرد اعتراض مواطن على احتلال منزله أو حقله أو كرمه من قبل المتاجرين بالسيادة والممانعة كان قمينا بأن يُدخِلَ المعترضَ المطالب بحقه إلى السجن أو القبر أو مجاهل الذباب الأزرق. مجرد تقديم شكوى خجولة ذليلة للأجهزة الأمنية للتبليغ عن سرقة مسجل سيارة أو دراجة أو سجادة يلقى استسخاف المسؤول الأمني ويضع اسم المشتكي على قائمة المشكوك بولائهم و تحت المراقبة إلى أن تحين فرصة تشذيب أجنحته وتقليم أظافره وربما خلعها كي يتوقف عن تعكير صفو الأمن وإحداث الشغب ويثوب إلى رشده ويعود مذعناً إلى بيت طاعة من يتولى إدارة صراع مع العدو ليس مقدراً له أن ينتهي.
تقضي نواميس وأعراف وهمايونيات المتاجرين بالقضية الفلسطينية والسيادة بأن يمشي المواطن مطأطىء الرأس، و بذات الوقت ، وغصباً عنه أن يساير الضاغط على كيانه وأن يرفع السبابة والوسطى ليعبر، غصباً عنه أيضاً، عن ابتهاجه الباهت الدامع بانتصارات موعودة موضوعة في ثلاجة "تحديد مكان وزمان المعركة" .
ليس عبثاً أن يتكلم رسل السلام والمحبة عن الحرية كما قال السيد المسيح عليه السلام " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" وكذلك قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
بموزاة الدعوات الدينية سارت دعوات أصحاب مذاهب سياسية وعظماء ومصلحين اجتماعيين ككارل ماركس الذي قال يوماً : " إذا ناضلنا لن نخسر سوى القيود التي تكبل أيدينا". كمال جنبلاط رفع شعار حزبه "مواطن حر وشعب سعيد" . أنطون سعادة قال : " إن لم تكونوا أحراراً من أمة حرة فحريات العالم عار عليكم" . سواء اتفقنا مع أفكار هؤلاء المصلحين الإجتماعيين أم اختلفنا معهم لا بد أن نرفع القبعة احتراماً لتلك التعابير الكبيرة بمغازيها التي تهز كل خلية من خلايا دخيلتنا وتروي عطش كرامتنا وتوقنا ، بل حاجتنا للحرية. هناك أيضاً غاندي ومانديلا وغيفارا وغيرهم وغيرهم . كثر كثر هم من دعوا للحرية وسجنوا واستشهدوا من أجلها ، من حقهم علينا أن نتذكرهم ، ويستحقون احترامنا وتقديرنا أنى كانوا ، وأينما ناضلوا على أي بقعة من كوكبنا.
ما تمور به الساحة العربية يبشر بكشف رأس جبل الجليد في الأفق المنظور، لا أكثر، على أنه علينا أن ننتظر لمدة سنوات، قد تطول أو تقصر، لنرى عملية التشقق والشروخ وذوبان كتلة جليد الجبل نفسه. نقدر بأنها ستمر بمخاض عسير يؤدي في النهاية إلى ولادة فجر جديد على النمط الذي انتهجته الثورات التغييرية التراكمية "Evolution" ، والتي أثبتت وقائع التاريخ بأنها أجدى من الثورات العنفية " ”Revolution وخير دليل على ذلك هو المقارنة بين الثورة الإنكليزية والثورة الفرنسية وما آلت إليه الأمور نتيجة لكل منهما.
ما يدعو إلى الارتياح والاطمئنان هو أن عصر الكلمة قد أزف، وصار رجع صداها يطغى على صوت مدافع الدبابات وجنازيرها وصليل أقفال الزنازين، وباتت الكلمة ترعب المرعبين من زوار الفجر والعسس وأزلام المخابرات والبساطير المشبعة بدماء رؤوس وأضلاع وأطراف الضحايا المطالبين بحريتهم.
فجر جديد قد بزغ ، أول غيثه قدرة الشعوب على المساءلة وتمسكها بحقها في نصب ميزان الثواب والعقاب. كل ما حولنا يشير إلى أن هيمنة الحاكم وخنوع المحكوم في سبيلهما إلى التلاشي. ذلك ليس ببعيد المنال ولا بأضغاث أحلام ، فنحن في القرن الواحد والعشرين، عصر الاتصالات وتحول العالم إلى قرية كونية بحيث يعرف من في أستراليا أخبار من هو في لبنان خلال جزء من الثانية وبسرعة الضوء الذي يحمل المعلومة. والعكس بالعكس. لقد ولى العهد الذي يوجب على المحق الضعيف أن يعتذر للمعتدي القوي النافذ كما أمْليَ على اسحق الموصلي أن يفعل ، اسحق الموصلي بما له من أفضال على الموسيقى والفنون والأدب أرغمته الظروف على تقديم التماس عفو للخليفة المأمون بهذا البيت من الشعر بعد أن تكدر صفو العلاقة بين الرجلين و زعل الموصلي حيث قال معتذراً : "لاشيء أعظم من جرمي سوى أملي/ لحسن عفوك عن ذنبي وعن زعلي / إن يكن ذا وذا في القدر قد عظما / فأنت أعظم من جرمي ومن أملي" .
من الواضح بأن في ذينك البيتين من الشعر مبالغة من قبل الموصلي، هي مبالغة الخائف الذي يعتذر لنيل السماح المنشود. تتجلى بداية المبالغة في الشطر الأول "لا شيء أعظم ..." ثم تنتهي في الشطر الثاني من البيت الثاني : " فأنت أعظم .. ". فهل كان لتلك المفارقة أن تحدث لو كان الموصلي قوياً ونداً وممتلكاً لحريته ؟ بالتأكيد لا .
ما نرجوه هو أن يصدح لسان حال الشعوب العربية بباقة كاملة متكاملة تطل من سلة ورودها براعم الحرية والكرامة والتعبير واحترام الآخر ورأيه ومعتقده الديني والسياسي بصرف النظر عن اللون والجنس والجنسية، وأن يؤمنوا ويمارسوا ذلك الواجب دون خوف ، ودون انخداع بشعارات براقة مخاتلة تحتضر وتحشرج .

CONVERSATION

0 comments: