سفيرة إشتراكية في عاصمة الرأسمالية/ د. عبدالله المدني

يـُعتبر منصب السفير في واشنطون أحد أهم المناصب الدبلوماسية التي يتقاتل عليها رموز الخارجية الباكستانية، ليس لأن واشنطون هي عاصمة القرار الدولي فحسب، وإنما أيضا بسبب التحالف الإستراتيجي والعلاقات الخاصة المتينة منذ خمسينات القرن الماضي بين واشنطون والحكومات المتعاقبة في إسلام آباد.
إلى فترة قريبة جدا كان شاغل هذا المنصب الأثير هو حسين حقاني. وهذا الأخير لمن لا يعرفه كان صحفيا لامعا وأكاديميا معروفا ومستشارا لثلاثة من رؤساء الحكومات الباكستانية السابقة، ومبعوثا لبلاده إلى سريلانكا. وقبل ذلك كان أحد ألمع الوجوه النافذة في الجناح الطلابي لحزب الرابطة الإسلامية الذي أسسه "القائد الأعظم محمد علي جناح". كما أنه مقرب من رئيس باكستان الحالي "آصف زرداري"، ومدافع صلب عن الحكم المدني في بلاده، ومنتقد شديد لتدخل جنرالات الجيش والمخابرات في الشأن السياسي، الأمر الذي وتـّر علاقاته في عام 1999 مع الرئيس السابق الجنرال "برويز مشرف".
إضافة إلى ما سبق، فهو – بحكم شهاداته العلمية الكثيرة في التاريخ والتربية والعلاقات الدولية، وعلاقاته المتشعبة الناجمة من إشتغاله في الصحافة – مطــّلع على التاريخ الإمريكي، وتربطه علاقات وثيقة مع نجوم المجتمع السياسي الإمريكي، لا سيما وأنه متزوج منذ عام 2000 من السيدة فرحناز إصفهاني (حفيدة أبو الحسن إصفهاني، أول سفير باكستاني لدى الولايات المتحدة) التي كانت تعمل منتجة لصالح محطة "سي إن إن" الإمريكية، قبل حصولها على مقعد في البرلمان الباكستاني الحالي.
في 22 نوفمبر المنصرم خسر حقاني منصبه الدبلوماسي الرفيع بعدما أجبر على الإستقالة، تمهيدا لمساءلته، وذلك على خلفية إتهام عسكر باكستان وقادة مخابراتها المعروفة بإسم "إس آي إس" له بأنه يوغر صدور الإمريكيين على جنرالات إسلام آباد، ويطالبهم بالتدخل من أجل تحجيم نفوذهم خوفا من قيامهم بإنقلاب جديد ضد الحكم المدني.
والحقيقة أن موقف حقاني هذا من عسكر بلاده ليس جديدا، وإنما أورده صراحة في كتاب له صدر في عام 2005 تحت عنوان "باكستان ما بين المسجد والعسكريتاريا". في هذا الكتاب إتهم حقاني جنرالات بلاده بإرتباطهم بالجماعات المسلحة المتطرفة في أفغانستان، ودعمهم لتنظيم القاعدة وأشباهها داخل الأراضي الباكستانية. غير أن ما فجر قنبلة العسكر في وجه الرجل مؤخرا، وجعلهم يضغطون على حكومة رئيس الوزراء "يوسف رضا جيلاني" للتخلص منه هو مذكرة قيل أنه رفعها إلى الأدميرال "مايك مولن" قائد هيئة الأركان الإمريكية المشتركة، عبر صديقه رجل الأعمال الإمريكي من أصل باكستاني "منصور إعجاز، يبدي فيها إنزعاجه من هيمنة ذوي البذلات الكاكية على شئون بلاده، وقيامهم بتوتير العلاقات الباكستانية – الإمريكية، وبالتالي ضرورة قيام واشنطون بالتدخل لحسم الأمور لصالح السلطة المدنية وتقويتها.
ورغم نفي حقاني لهذه المذكرة وتنصله منها ومن علاقته بـ "منصور إعجاز" الذي كان قد كشف النقاب عن الموضوع أول مرة في مقال كتبه في صحيفة "الفايننشال تايمز" اللندنية، فإن الضغوط تكالبت على إدارة زرداري/جيلاني لإجبار حقاني على الإستقالة أو طرده. ولعل في هذا دليل آخر على مدى ما تتمتع به المؤسسة العسكرية الباكستانية من تاثير ونفوذ، ومدى قيامها بلعب أدوار خفية من وراء الكواليس حينما لا تكون في السلطة.
ولأن ترك منصب السفير في واشنطون شاغرا عمل مكلف وذو نتائج وخيمة على صعيد إستمرار تدفق المساعدات الإقتصادية والعسكرية، خصوصا في هذه الفترة الحرجة التي تتعرض فيها علاقات البلدين الحليفين لأصعب إختبار، ولا سيما منذ إستباحة قوات الكوماندوز الإمريكية للسيادة الباكستانية في مايو المنصرم من أجل قتل زعيم تنظيم القاعدة "أسامة بن لادن"، دعك من الضربات الجوية الإمريكية المتكررة ضد معاقل الجماعات الباكستانية المتشددة من أمثال حركة "طالبان- باكستان"، فقد سارعت إسلام آباد إلى تعيين السيدة "شهربانو رحمن" المعروفة بـ "شيري رحمن" كسفيرة لها في واشنطون، علها تستطيع رتق ما ظهر في ثوب علاقات البلدين من ثقوب مسببة لعدم الثقة.
هذا الإختيار المفاجيء والسريع، أربك الكثير من المراقبين في داخل باكستان وخارجها، بل صار مادة للكثير من التحليلات والمناقشات والجدل الذي لم ينقطع حتى هذه الساعة. ولم يكن مرد ذلك عدم إمتلاك شيري لمؤهلات ومواهب تناسب عملها الصعب، وإنما بسبب خلفيتها الإشتراكية، وما قد تسببه هذه الخلفية الإيديولوجية من مشاكل إضافية في كيفية تقبل رموز الدولة الرأسمالية الأم لها وتعاونهم معها.
ولئن كان لأصحاب مثل هذا الرأي بعض الحجة، خصوصا في ظل الشكوك التي تساور الإدارة الإمريكية ممن عيــّنها، وهو الرئيس "آصف زرداري"، فإن هناك ثمة أمور قد تساهم في تذليل الصعاب من أمام شيري، بل وتجعلها قادرة على كسب إحترام صانع القرار الإمريكي. من أهم هذه الأمور ما يصاحب التوجهات الإشتراكية لهذه السيدة من آراء تقدمية ليبرالية من تلك التي تستهوي الإمريكيين. فالكل مطلع مثلا على دورها المشهود في الدفاع عن ملفات هي في صلب إهتمام واشنطون مثل حقوق المرأة، وحقوق الأقليات المسيحية والهندوسية والسيخية في باكستان، ودورها في مقاومة طروحات الجماعات الإسلامية المتشددة وتشريعاتهم (قانون التجديف مثلا)، وهو الدور الذي تسبب في تهديدها بالقتل، وبالتالي إضطرارها إلى إلتزام منزلها طويلا تحت حماية الشرطة. هذا ناهيك عن دورها المستميت من أجل حرية الصحافة والتعبير أثناء السنوات العشر التي تولت فيها رئاسة تحرير كبرى صحف باكستان (ذا هيرالد) وقيادة مجلس رؤساء تحرير الصحف الباكستانية (1988-1998 )، ثم أثناء شغلها لمقعد في الجمعية التشريعية عن حزب الشعب ما بين عامي 2002-2007 ، وأخيرا أثناء إمساكها بحقيبة الإعلام ما بين مارس 2008 ومارس 2009 .
ومن الأمور الأخرى التي قد تساعد شيري في مهامها، معرفتها الدقيقة بالولايات المتحدة إنطلاقا من حقيقة دراستها للتاريخ والعلوم السياسية في كلية سميث في ماساتشوتس، ناهيك عما عـُرفت به من جرأة في ما يتعلق بالدفاع عن الحكم المدني الديمقراطي، وهي الجرأة التي أختيرت بسببها كبطلة للديمقراطية في عام 2006 من قبل مؤسسة "دوفيرين" لدورها في الوقوف مع الراحلة "بي نظير بوتو" في حملة الأخيرة ضد حكم المؤسسة العسكرية، والتي أختيرت بسببها أيضا ضمن مائة إمرأة آسيوية نافذة في عام 2009 من قبل مجلة "أهلا" الإماراتية.
ولعل أكثر من يتخوف من تداعيات ذهاب منصب السفير في واشنطون إلى "شيري رحمن" هم الجناح المتطرف داخل مؤسستي الجيش والإستخبارات الباكستانيتين، وجماعات الإسلام السياسي المتشددة. فهؤلاء لم يتوقفوا منذ الإعلان عن تعيينها عن التحذير من أن "وجود إمرأة إشتراكية تقدمية بوجه ليبرالي كسفيرة في واشنطون يعني إلتقاء وجهات نظرها بوجهة النظر الإمريكية حيال أوضاع باكستان المتداعية"، أي بكلام آخر تماهيها مع المصالح الإمريكية ضد مصلحة بلدها. وهذا، بطبيعة الحال، كلام بائس لا يستقيم، وباعثه الوحيد هو التشكيك في القدرات النسائية.

د. عبدالله المدني
باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: يناير 2012
الإيميل : elmadani@batelco.com.bh

 

CONVERSATION

0 comments: