زيارات وتجوالات ميدانية
زيارة طريق الشعب :
هل يُعقلُ أنْ أكون في بغداد ولا أزور مقر طريق الشعب ؟ الصحيفة التي ساهمت ولأربعة أعوام في تحرير الصفحة الأسبوعية المخصصة للمعلمين والتعليم سويةً مع الرجال الأفذاذ صاحب حداد وحسن العتابي وعبد الستار زبير ثم الأخوين محمد حسين وهاتف الأعرجي.
في أمسية اليوم الثاني لوصولي بغداد أخذت أم أمثل معي قاصدين زيارة مقر صحيفة طريق الشعب الواقع على شارع أبي نؤاس مقابل نهر دجلة . كان الظلام دامساً فضيّع سائق التاكسي طريقه عدة مرات وكان الرجل مُحرجاً أنه فشل في إيصالنا إلى العنوان الذي طلبنا . كنا نقف في الشوارع سائلين أين يكون مقر جريدة طريق الشعب ؟ كان رد جميع مّنْ سألنا من السابلة وشرطة المرور واحداً لا يتغير : تقصدون جريدة الحزب الشيوعي ؟ أشفقنا على سائق التاكسي فترجلنا نسأل أين نحن وكيف نصل مقر الجريدة ؟ أخيراً وصلنا بناية كبيرة محترمة محصّنة جيداً تحمل في واجهتها بحروف كبيرة { طريق الشعب } . بعد الأسئلة والتفتيش طلبنا مقابلة الأخوين دكتور مفيد الجزائري والدكتور صبحي الجميلي . أدخلونا حجرة إستقبال وقورة في تنظيمها ومحتوياتها وجاءت ستكانات الشاي مع كؤوس الماء وجاء معها الجميلي أولاً وجاء الجزائري بعده . كان لقاء دافئاً جداً مفعماً بشتى العواطف والذكريات وبعض العتاب . قلت للسيد مفيد إني وصديقك المندائي الأستاذ فاضل خالد فرج نتطرق لذكراك بين الحين والآخر . إفترّت أسارير الرجل الجميل المهيب بفضة شعر رأسه وما يحمل منكباه من تجارب كفاحية وما عانى في صباه من عَنَت سلطات العسف ثم التغرّب الإضطراري الطويل . أشرق وجهه فأدركتُ أهمية ما يحمل من ذكريات مشتركة تجمعه بالأخ فاضل فرج . سألته عن الفنان محمود صبري قال إنه ترك العاصمة الجيكية براغ وأقام في لندن . سألته عن الأستاذ حسين العامل قال إنه متوعك الصحة. إستأذن لأنشغاله بأمور عاجلة تتعلق بطبيعة تحرير العدد الجديد من صحيفة طريق الشعب.
قلت للجميلي مداعباً : أهل الحلة عاتبون عليك ! أدرك القصد فأجاب على الفور : واحد ... واحد فقط ! كنت أقصد الأستاذ محمد علي محيي الدين . أجلْ ، كان لقاءً تأريخياً لن أنساه لخشيتي ألاّ يتكرر . ما عرفت الأستاذ مفيد الجزائري أيام دراسته في مدارس الحلة ولكنْ لي ذكريات عزيزة عميقة مع الدكتور صبحي الجميلي حتى شهر تموز من العام 1978 من القرن الماضي شهر وعام النكبة والهجرة القسرية الجماعية .
زيارة مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي :
ركبت ظهيرة أحد الأيام التاكسي الأصفر اللون ميمماً وجهي صوب ساحة الأندلس للحج والعمرة والسلام على مَن أجد في مقر الحزب من أفذاذ الرجال . سؤال وتفتيش معتادة ومن جهتي سألتُ عن الموجودين هناك قالوا دكتور غازي الخطيب . إعتراني شعورٌ طاغٍ بفرح بريءٍ طفولي أني أجد أمامي الأستاذ إبن السماوة والطبيب البيطري الدكتور غازي الخطيب. تذاكرنا وتذكرنا أموراً شتّى خاصة وقرينته سيدة حلاوية من عائلة الطائي هي شقيقة زميل التدريس في مدارس الحلة الأستاذ كاظم نادى علي وشقيقة السيدة إعتقال الطائي التي عرفها العراقيون على شاشة تلفزيون بغداد في سبعينيات القرن الماضي .
كان مع الدكتور الخطيب رجل فارع الطول أنهى لتوّه محتوى العمود الخاص به . قرأه علينا فوجدته قوياً لا ينسجم مع الخط العام للحزب . سألته سؤالاً إنكارياً : هل يسمح الدكتور الجميلي بنشره ؟ ردَّ على الفور بل وسينشره شاءَ أم أبى . كان الرجل يحمل لقب العطواني .
زيارة السيدة حنان كريمة شقيقي المرحوم فيصل :
فاجأنا السيدة حنان أم أحمد مساءَ أحد الأيام بزيارة لم تتوقعها وكانت مشوقة أنْ ترى عمّها الذي لم تَرَهُ أصلاً في العراق . كانت أم أمثل معي وكانت تعرف عنوان بيت حنان في الكرادة الشرقية داخل . في المكان المضبوط أوقفنا سيارة التاكسي واتجهنا ناحية دار أم أحمد . كانت فرحة أول لقاء بيننا فرحة عارمة لم تستوعب كل ما كنا نحمل من أشواق وذكريات تخص العائلة بكافة أطرافها وفروعها وتفرعاتها . أبو أحمد رجل من الحلة طيب المعشر طيب المجالسة حلو الشكل والحضور . تعرفنا على إحدى بنات هذه العائلة وأحد بنيها وكنت سعيداً أنْ أرى مّنْ رأيتُ من أجيال جديدة أراها وأسمع بها للمرة الأولى. غادرنا بيت مضيّفينا لنتجول في شارع الكرادة الشرقية الرئيس الذي كان غاصّاً بالمتجولين والمتسوقين من كلا الجنسين فالأسواق عامرة مضاءة كأنها في نهار يوم ساطع وأنوار الشارع تزيد الأمكنة أَلَقاً وبهجة . كنت أبحث وأسأل باعة التمور عن المكتوم والأشرسي فلم أعثر إلاّ على الأشرسي فابتعت كيلوغرامين بينما انشغلت الحاجّة بالبحث ـ كما هو شأن كل النساء ـ في محلات الأقمشة والستائر والبدلات وشراشف المخدّات واللحفان وغير ذلك من أمور لا تمل منها النسوان . قطعنا أغلب الشارع محملين بالأكياس حتى شعرنا بالتعب فأخذنا سيارة تاكسي وقفلنا راجعين حيث مقر إقامتنا . وعدت أم أحمد أنْ أزورهم قبل رجوعي إلى ألمانيا وقد نفّذتُ وعدي فزرتهم لوحدي بعد أنْ غادرت الحاجة بغداد وشعرتُ كأني أولد من جديد وأنا أتوسط هذه العائلة المضيافة الكريمة .
زيارة الحاج هادي :
توجهتُ صباح أحد الأيام ماشياً نحو شارع النهر أجدد فيه ذكريات عقود سلفت بخيرها وشرّها . كان الشارع عاجاً بالبشر متسوقين وباعة وبطرانين من أمثالي . أغلب محلات هذا الشارع مخصص لبيع الملابس والبدلات والعباءات النسائية . ثم ما كان خالياً من باعة اللبلبي والتكة والشلغم المطبوخ بالدبس . وصلت محل قريبي فلم يعرف من أنا . عرّفته بنفسي فأشرق وجهاً ومحلاً وأسعدتني رؤيتي لأحد أولاده الكثير الشَبَه بأحد أعمامه الراحلين . وعدته أنْ أزوره ثانية لكنَّ المرض حال دون ذلك . تركت شارع النهر لأدخل سوق السراي المسقّف جيداً والغاص بدكاكين القرطاسية وبيع الكتب القديمة . في نهاية سوق السراي المتصلة بشارع المتنبي رأيت محل بائع الكبة القديم شهير زمانه مع تغييرات إقتضتها المراحل فقد تحول المكان إلى مطعم صغير يتناول فيه رواده طعامهم وقوفاً . الصق صاحب المحل على الحائط لافتة بأنواع الكبّة وسعر كل نوع : فهذا سعر الكباية الصغيرة وهذا سعر الكبيرة وتسعيرة ثالثة لكباية خاصة وهذا سعر ستكان الشاي . كل شيء منظّم ومعروف أعجبني كأنه إستثاء في بغداد . إخترقتُ شارع المتنبي مأخوذاً بكثرة المعروض من الكتب تحمل عناوين شتّى وفي شارع الرشيد أوقفت سيارة تاكسي وعدتُ راجعاً لمثواي .
0 comments:
إرسال تعليق