" تُصيب القوّة الكثيرة المفرطة صاحبَها بالعمى والصمم فلا يرى ولا يسمع واقعَ الآخر
إلا حين يأخذ الكلمة وأحيانا بالسلاح ! هنا يسمعه ، لكن بعد فوات الأوان ! " (1)
إلى كلّ عربي مظلوم ومقهور
يرفض السقوط أمام عواصف الإعلام المدمّرة
والتخلي عن الحقيقة أمام حملات التضليل !
-------------------
حَريّ بكل إنسان يَتمتع بأدنى قسطٍ من نور العقل والحضور الوجودي أن يقفَ وقفة تأمّل مليئة بالتواضع والخشوع أمام " الشعب " ، ولا بدّ لكل إنسان يأبى إلا أن يعيش وفق انسجام بينه وبين بشريّته ، أن يستفتي قلبَه ويستمع لكلامه الباطني ومفرداته الروحية ودقاته الناطقة بالحياة بشأن " الشعب " ...
وكيفما كان الموقعُ الذي يحتله الانسانُ في حياته الاجتماعية والمهنية والسياسية والثقافية وأيضا الحضارية – حاكما أو محكوما ، تابعا أو متبوعا ، آمرا وناهيا أو طائعا منفذا ، أستاذا أو تلميذا ، مديرا أو موظفا ، قويا أو ضعيفا ، غنيا أو فقيرا ، كبيرا أو صغيرا ، رجلا أو امرأة ، غربيا أو شرقيا... – لابُدّ أن تأخذه قشعريرة وتهزه رعشة ، لابدّ أن ترتعد أوصاله وتحدث له دهشة فيبقى مذهولا حائراً ، لمّا يفاجأه انفجارُ " الشعب "... فلا يفهم ولا يعرف من أين أتى هذا الانفجارُ وقد ظل البركانُ ساكنا هادئا ، خامدة جمراتُه ومنطفئة نيرانُه طيلة حقب من الزمن البعيد...
كيف تبدأ الثورة ؟ هل بالكلام الرنّان المعسول والجمل المنمّقة المزركشة ؟ هل بحدثٍ سياسي أو اجتماعي كبير تشارك في نشأته حشودٌ من الناس دفعة واحدة ؟ أم بأشياء بسيطة ووقائع اجتماعية صغيرة ، وفْق منطق تدريجي ، وعن طريق أناس بسطاء يتكلمون لغة الواقع العادية ؟ ثمّ ، ما وجه الشبه بين تمرّد الطبيعة وعصيانها ، والثورة في النفس والمجتمع ؟
لنسمع ما يقوله الشاعرالهولندي ( 1) Remco Campert حتى نفهم بعضَ ما يجري في الخفاء من استعداد بعض الظواهر الطبيعية والإنسانية والكونية لتصبح فجأة زوابعًا وصواعقا وخروجًا عن المألوف :
تبدأ الثورة بكلمات بسيطة لا بالخطب الفضفاضة ...
كما العاصفة ، تبدأ في الحديقة بريح ناعمة ونسيم...
كالقطة لما تهيج...
كما هي الأنهار الواسعة
تمتلأ عن طريق جداول الماء الصغيرة
الجارية بصمت بين أشجار الغابات...
كالحريق في البحر
يشتعل كما السيجارة
بنفس عود الثقاب...
مثل الحبّ يبدأ بنظرة
باحتكاك نبرة صوت تصيبك...
لكن كيف تنتشر الثورة ويُكتبُ لها التوسع والامتداد في الزمان والمكان، وتستطيع أن توصل صوتها إلى كلّ شرائح المجتمع وطبقات الناس ؟
يقول Remco Campert في نهاية قصيدته بلغة بسيطة جدّا :
فكما تطرح على نفسك سؤالا
هكذا تبدأ الثورة
تطرح هذا السؤالَ على الآخر...
ويعرف الشعراءُ الكبار هذا المعنى أكثر من غيرهم خصوصًا إذا كانوا من الذين لهم تجربة في المقاومة أو النضال من أجل حق الشعوب في تقرير مصيرها مثلا. كلّ الذين التزموا في حياتهم بالحفاظ على إنسانيتهم بتحريرها من قيود الأناة الفردية الضيّقة ، وتخليصها من سلاسل العبودية وقوى الاستعمار والهيمنة ، وأنظمة القهر والظلم والقتل ... كلّ هؤلاء فطنوا ، في قفزة نوعية مدهشة ورائعة ، أثناء خوض غمار معركة " المعنى والحرية " ضد مشاريع " العدم والعبث " ، إلى ما تؤول إليه إرادة الفرد المتمرّد الثائر… وهم يعرفون تماما ما يَقصدُ إليه روني شار René Char ، هذا الشاعر الفرنسي الذي كان ممّن التحقوا بالمقاومة في الجبال فحمل السلاحَ ضدّ الاحتلال الألماني لبلده ، لمّا يقول :
" أثور إذن أتفرّعُ أتشعّبُ ،
هكذا يحسن بالبشر أن يتكلموا إلى المحرقة التي ترفع من شأن تمرّدهم " (2).
لا شك أنّ ما يبوح به المعنى الشعري هنا لمفهوم الثورة هو مُتعدّد وغير محصور، لكنّ وقفة حازمة عليه وإن كانت سريعة ، تقود إلى استخراج بعض عناصره الدلالية الأساسية :
- الثائر ، كحامل الشعلة ، يمرّرها إلى الآخرين الذين يقومون بنفس الدور إلى ما لا نهاية ،
- كلما كثر القمعُ والتنكيل والقتل ، كلما ازداد عددُ الثوار وقويت شوكة الثورة ،
- تبدأ الثورة ككلمة تحيل إلى مفرد بصيغة المفرد " الثائر" ، ثمّ تتحوّل إلى لفظة تدلّ على جمع ، ولو صيغت في شكل مفرد ، يمثله " الشعبُ " خيرَ تمثيل ،
- رسالة الثائر تبقى على ممرّ السنين خالدة لأنها تملك من قوة التأثير وسحر الجاذبية ما يجعلها
قادرة على عبور الأجيال و اختراق الحدود الجغرافية وحواجز أخرى ،
- يلحق الثائرُ رمزيا بالطبيعة ليشاركها همّها في إعادة ترتيب العناصر، وتهيىء الأجواء لتمكين الحياة من الظهور بحُلل ٍ وألوان ٍجديدة...
- يستطيع الثائرُ بفعله المتمرّد المناهِض أن يعانق – فيما وراء الفرد والمجتمع والطبيعة - الأبعادَ المترامية ، الحقيقية والرمزية ، للكون والوجود في تدفقاته وتحوّلاته وتوسّعاته ، وسيره قدما نحو الأمام...
هذه هي بعض معاني " أثور إذن أتشعب وأتفرّع... " وهي لعمري العلم بعينه والمعرفة الحقيقية بنوع العلاقة التي تربط الفردَ بالثورة ، ومن ثم يولدُ شعباً وأمّة ، بل عالمًا إنسانيًا كونيًا تتعدّى حدودُه الوجهَ المادي للأشياء والكائنات لتصلَ إلى طبيعتها الوجودية وحقيقتها الروحية وكلّ التداعيات الرمزية المرتبطة بها.
*******
حين تشعر وتعي أنّ أيامك ليست في الحقيقة سوى لحظات متوالية من النوم والنعاس ، والتفرج على الاشياء والاستهلاك... ، لمّا تجد نفسَك تتهالك على الكراسى ، وتحسّ أنْ قد مسّكَ حبّ التقاعس والكسل ... لمّا تتأكّد من أنّك من العاشقين للانبطاح والتثاؤب ... عندما تتيقن من أنّ فيروس الجمودِ والركون قد نجح - بفضل مخططات المراقِب القامع المستبدّ الظالم - من التسلل إلى نفسك ونفث فيها سمّ السلبية والتواكل والتسويف ، في حين أنّ حقوقك الانسانية الأساسية مهضومة ، وأنّ الحياة في هذا الكون من حولك في حركة دائمة ونشاط مستمر ، منفعلة متحوّلة ، باحثة متسائلة ، فاعلة وخلاقة... ، تعرف عندئذ أنّك لست سعيدا لأنّك ، ببساطة ووضوح ، مُحتلّ نفسيا وعقليا وماديا...
وإذا اكتشفت ، أيها القارىء ، في ذهولٍ عنيف وخبَل نفسي محبط هذه الحقيقة المزعِجة الرهيبة ، أنّك واحدٌ من الخرفان في " أسرة القطعان المطوّعة المُقادة " ، وأنّ حالتك من الشقاء والتقهقر والنفي والغياب والاحتضار ما هي عليه ... ، فما الذي يمنعك من اللحاق بمواكب الشعوب العربية والاسلامية ، وضمّ صوتك إلى طموحاتها النبيلة ومطالبها المشروعة وقضاياها العادلة... ؟ ما الذي يحول بينك وبين وضع يدك في يد فلسطين المحتلة الضعيفة المظلومة ، التواقة إلى استرجاع حرّيتها وأرضها المسروقتيْن ؟
وقبل أن ننطلق كالسهم الخارق ، لننصت باحترام وإجلال ، إلى صوت الشاعرالفرنسي جون مالغيو Jean Malrieu ، وهو ينشد في إقدام وجرأة وأمل ، لكنْ بوضوح الثائر وشفافية قناعته بالمخاطر التي تحوم حول انتفاضته ونهضته وتطلعه إلى التحرر :
إذا كانت السعادة ليست من حظنا في هذه الحياة ،
سننطلق للقاءها
وعندنا لكي نستأنس بها هذا المعطف العجيب الثائر...
إذا حَدَث أن هدّدَ حياتَك خمولٌ ما
فخاطِر بها... (3)
-----------------------------------
(1) Warschawski Michel, Au pied du mur, Syllepse, Paris, 2011, p. 22.
(2) تعتمد ترجمتنا لهذا الشاعر الهولندي على النسخة الفرنسية كما نشرها عدد من المواقع على الإنترنت
(3) René Char, La recherche de la base et du sommet, Gallimard, Paris, 1971, p. 148
(4) ترجمنا هذه الأبيات من قصيدة للشاعر بعنوان " انتفاضة حشود " Levée en masse
0 comments:
إرسال تعليق