ربيع مصر وخريف إسرائيل (الجزء الثاني)/ سامي الأخرس


تناولنا في الجزء الأول تجليات اقتحام السفارة الإسرائيلية من قبل ثوار مصر، والظروف والدوافع التي كانت دافعًا لذلك، مع تحليل الحالة المصرية وقواها الحالية. في حين نتناول في هذا الجزء قراءة مستقبلية لمنظومة العلاقات المصرية على ضوء المتغيرات التي فرضتها ثورة 25 يناير، وتوابعها التي لا زالت متتابعة ومتوالية حتى راهن اللحظة، في عملية استحداث مستمرة.
منظومة العلاقات المستقبلية المصرية:
إن أحداث جمعة ( تأكيد الثورة) قد صاغت رؤية جديدة لمنظومة العلاقات المستقبلية المصرية، سواء على صعيد العلاقات الداخلية في البيئة المحلية الاجتماعية بكل مكونات فسيفسائها الاجتماعية والدينية، أو على صعيد العلاقات المصرية الاجتماعية مع النظام السياسي المصري المستقبلي، وكذلكك على صعيد مستوى العلاقات المصرية مع دول المنطقة والبيئة الإقليمية والقارية، أو مع القضايا العربية والإسلامية.
1. ثورة وحراك اجتماعي بلا ملامح:
قبل اقتحام بؤرة المركز الجامع لأشعة أو لانعكاسات الضوء المنير للنفق، الذي بدأت نهايته تتضح، علينا استرجاع النظر وقراءة انطلاق الربيع العربي من الواجهة المظلمة له، أي من انعكاس الظل للصورة، وهي الصورة التي تشبه صورة حنظلة المخلوق الكاريكاتوري الذي خلقه وتبناه الفنان الفلسطيني ( ناجي العلي) كرمزية في رسوماته، حيث لم يظهر وجهه إلاّ بعد استرداد الكرامة العربية، فاستشهد ناجي العلي ولم نرَ وجه حنظلة، وهنا نفس الصورة الرمزية تتكرر حيث لم نرَ بعد الوجه الحقيقي للثورات أو للحراك الاجتماعي العربي، الذي لم يتبلور لمستوى ثورات فكرية وايديولوجية لها أجندة ورؤى شمولية تتخذها كاستراتيجيات بعد النصر، وإنما انطلقت بحراك عفوي شبابي متمرد على واقعه الاجتماعي المستبد، وقهره من أنظمة استبدادية سلبتة الحرية، والكرامة، ولقمة العيش، والمستقبل وتمثل ذلك في شعارات هؤلاء الشباب، وخاصة ما ابتكره الشباب المصري تحت شعار" الشعب يريد اسقاط النظام" ولم تستطع أي حركة عربية من الخروج عن شعارات الحراك المصري الذي أبدع في طرح أهداف حركته بشعارات بسيطة عبَّرت عن روح الدعابة والجدية معًا التي يتمتع بها الشعب المصري، وكذلك حدود ومسافة الحركة التي حافظ الشباب المصري عليها في دائرة " سلمية الثورة" وهي النهج الذي تبنته معظم الحركات والثورات العربية ما دون الحالة الليبية الشاذة التي لم تعبّر سوى عن إرادة فئة تناسقت وتناغمت مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، أما الحالة اليمنية فهي صورة مستنسخه بكل تفاصيلها مع الحالة المصرية مع الفروق في التركيبة الاجتماعية للمجتمعين المصري واليمني، وخصوصية كل مجتمع منهما، وكذلك الحالة السورية رغم محاولات بعض القوى والشخصيات المرتبطة بأجندة خارجية تُطالب باستدعاء القوى الغربية لضرب سوريا، وهو الفعل الذي لم ينساق إليه الأمين العام للجامعة العربية ( نبيل العربي) كما إنساق له سابقه (عمرو موسى) الذي منح غطاءً شرعيًا للناتو والولايات المتحدة باحتلال ليبيا اقتصاديًا، بعدما منحت نفس الحق في احتلال العراق عسكريًا وسياسيًا، واقتصاديًا في سنة 2003م.
وعودة لجوهر موضوعنا فإن هذه الحركات لم تتخذ الشكل الثوري المنظم، والمؤطر ايديولوجيًا وفكريًا، بل عبَّرت عن تحركات اجتماعية عفوية ارتقت في مطالبها، وارتفعت في سقف أهدافها متناغمة مع الدفعات المعنوية والصمود الذي شكله الشباب، حتى بلغت ذروتها في شعار " الشعب يريد اسقاط النظام" وهو نجاح تحقق في تونس التي اشعلت فتيل هذه الحركة ولكنها لم تستكمله، واستنكفت الشرارة التونسية مع هروب ( زين العابدين بن علي) ولم تستطع تغيير شيء جوهري في النظام، أو في السلوك العام للواقع الاجتماعي والسياسي التونسي، مما دفع الشارع التونسي لكظم الغيظ والإنتظار على قارعة ما تمليه عليه الأحزاب والقوى التقليدية التونسية، وسط حالة من السكون الصامت الذي إن فقد الأمل سينفجر في وجه الحالة ويتمخض عن فعل أشد من الفعل السابق في 17 ديسمبر 2010م، وهي حالة مغايرة للفعل المصري الذي بدأ يتبلور بملامح معينة ويتخذ شكل معين ذو هوية ثورية فاعلة تمتلك استراتيجيات ورؤى محلية، واقليمية، ودولية وربما هنا الفارق في أن الخبرات المصرية عن التونسية كان له دور مؤثر، أو في درجة الوعي المجتمعي بطبيعة الأهداف الثورية التي يتطلع لها كل طرف، وهو التعبير الذي حدده الشباب المصري في جمعة إعادة إحياء الثورة، وما تم رسمه باستراتيجية تبينت ملامحها المتبلورة في ذهن الشباب المصري، وهو الأساس الذي دفعني لطرح بند منظومة العلاقات المستقبلية المصرية، والتي من خلالها يتم استقراء شكل أو صورة الظل العكسية للثورة المصرية التي بدأت ملامحها تتبلور وتتضح، في ظل الضبابية السابقة التي كانت الأمور عليها ما قبل – جمعة إعادة احياء الثورة – والتي اسقطت كل الفرضيات الغامضة في تحديد مسار الحراك المصري الفعلي سواء على صعيديه الرسمي المنتج من ثورة 25 يناير أو المجتمعي المعبَّر عن الفعل الشعبي الثوري المصري.
2. منظومة العلاقات المستقبلية الاجتماعية للمجتمع المصري:
رغم تحديدنا في الجزء الأول أن المجتمع المصري أصبح يمثله ثلاث قوى اجتماعية شعبية الآن في ظل حالة الفرز الثوري، وهي قوى لا تتخذ شكل الطبقية أو العقائدية، أو المذهبية بل إنها قوى شعبية تعبَّر عن حالات سياسية متباينة، تخوض صراعًا مصلحيًا فيما بينها وبكل الأحوال بأقسى حالاته ودرجاته لن يخرج عن طور الصراع السياسي المتباين، والتعبير الديمقراطي رغم حالة الشدّ والجذب والفوضى في بعض الأحيان التي تطغو على مظاهر الصراع، وبعض الاحتكاكات البسيطة، إلاّ إنها محصورة في إطار الفهم المتوالد من الثورة، والتغيير وهي حالة طبيعية في قانون أي عملية تغيير، حيث تحدث بعض الإرباكات في سبر العمل، والحركة، حتى تستقر حالة النظام العامة. وطبيعتنا كعرب دومًا نخشى من التغيير ونخافه، ولا نصبر عليه حتى يتضح وينتظم في مساره الصحيح ويستقر، كما إنها حالة ايمانية في عقيدة الثوار بضرورة حرية التعبير لكل فئات وشرائح المجتمع، وجزء من كينونة التصور والفهم الديمقراطي الذي قامت لأجله الثورة، وظاهرة تعمق مبادئ العدالة الاجتماعية، وحرية التعبير، والديمقراطية، مع ضرورة التهذيب لتكتمل صورتها، وتصبح مبدأ ديمقراطي في الممارسة العملية للمجتمع بكل تجلياته. ورغم صعوبة التهذيب في ظل الفوضى الفكرية والثقافة الدموغاجية التي اكتسبها المجتمع العربي في المراحل السابقة إلاّ أن الشباب المصري رغم عدم خبراته، وحالة العاطفة والحمية الشبابية، قدم نموذج متقدم من الوعي الراقي التي جسدها في الأزمة القبطية التي عصفت بمصر قبل فترة، ومحاولة البعض لإشعال فتيل هذه الأزمة واستغلالها لضرب النسيج الاجتماعي المصري، وتم افشالها أمام هجوم الوعي الثوري الشبابي، وتلاحم المجتمع المصري المتجانس بفسيفساء مجتمعية أكثر من أي مجتمع آخر في المحيط العربي، وكذلك في الوعي الوطني، والإنتماء الوطني المنصهر بنفس درجة الوعي لدى كل الفئات والشرائح الاجتماعية المصرية، وهي القاعدة الصلبة التي تتلاشى عليها كل المحاولات لخلق فتنة اجتماعية، تمزق النسيج المجتمعي. وإنما لا زالت حتى راهن اللحظة مجرد أحداث عابرة في مرحلة التغيير تعبر عن شيء طبيعي سرعان ما يتم احتوائه والتغلب عليه، رغم نجاحها في تسلل بعض الأفكار الدخيلة لدى العقل الباطن لبعض الفئات غير الواعية، وبعض المرتجفين الذين ليس لديهم وعي بالثورات، إلاّ إنه يبقى أسير هذه الفئات ومصالحها.
هذه الحالة العامة للمشهد المجتمعي المصري تؤكد على أن منظومة العلاقات الاجتماعية المستقبلية تنحو نحو الإلتصاق والتماسك، والتكاثف بعضها مع بعض في حلقات متصلة بالإنتماء والحرص على مصر، وبناء الوطن المصري القادر على مواجهة التحديات المستقبلية، وبناء مصر الحاضنة الأمينة لأبنائها وأجيالها مسلمين وأقباط، عرب ونوبيين، أي؛ مصر للمصرين. أي؛ مجتمع يزداد تماسكًا وتوحدًا من نابع دماء شهداء ثورة 25 يناير، ودماء شهداء الجيش المصري، وآلام ومعانيات شعب شهدت مدنه ثورة تاريخية وملحمة أعادت مصر لمكانتها، واعادت الهيبة المصرية في معركة إعادة الإكتشاف.
3. منظومة العلاقات المستقبلية مع النظام السياسي:
لا يمكن للتاريخ أن يعود بعجلته للخلف، وعقارب الساعة دومًا تندفع للأمام، والحياة تستمر صوب التجديد والتغيير، والفرص قائمة للأفضل ما دام الشمس لا تزال تشرق من مشرقها، لن تتوقف إلاّ عندما تشرق من مغربها، وتتوقف فرضيات التوبة وهو حال فرضيات التغيير والتجديد، ما ينطبق على الحالة المصرية التي اختمرت وأصبحت تمتلك القدرة على الاندفاع صوب المستقبل، ورسم معالمه، وتحديد ملامحه، مستنبطة من الماضي عبّرة، وتجربة استرشادية في عدم تكرار الأخطاء، وأن الخضوع لم يعد له معاني في قاموس الشعب المصري، وهو المحدد العام لإسقاطه على المستقبل، وعلى وجه العلاقة بين المجتمع ونظامه السياسي الذي لن يعبَّر عنه العقلية والنهج التجاري الاحتكاري لتجار الغاز والحديد كما كان في سابق الثورة، وديمقراطية الورق وشراء الذمم وسطوة الأمن، وارهاب المجتمع برغيف الخبز.
هذه المظاهر والمسميات لم يعد لها وجود في الوعي الثوري المنبعث من دماء شهداء الثورة، والوعي الوطني الشبابي، وإصرار وارادة مجتمع يمتلك من قوة الشباب دافعًا وحاميًا لمكتسباته، وهي الصورة الفعلية التي حددَّت ملامح هذه العلاقة في جمعة تأكيد الثورة التي كانت رسالة واضحة محددة الملامح الحالية والمستقبلية، وكذلك رسمت لوحة النظام المصري القادم الذي يقوم على قاعدة الانتخابات الديمقراطية الفعلية، أي أن الشعب المصري هو من يفرض كلمته، ويعيد صياغة قوانينة الإنسانية، والجهة الرقابية على السلطة التنفيذية، وكذلك التشريعية التي تمثل ارادة ميدان التحرير الذي لن يُغادر مصر أبدًا.
بناءً على ما سبق، لم يعد وجود للماليك، رغم وجود قلعة ( محمد علي) وإن كان صاحبها قد أصبح أثرًا من التاريخ، فإن الظلم والقهر والإستبداد، واختلال العلاقة لصالح النظام السياسي الجديد ستكون أثرًا وهميًا في ذاكرة الأجيال السابقة لأجيال الثورة الشعبية المصرية. وهي الإرادة التي اسقطت الرئيس مبارك وستسقط كلّ من ينتهج استلاب الإرادة الحية وقواها الفاعلة، وهي الناظم الحقيقي للعلاقة مع النظام السياسي باختلاف هويته ومشاربه، ومن المتوقع أن يكون النظام السياسي القادم مكملًا ومعبرًا عن الإرادة الشعبية والجماهيرية، والثورية وإن فازت أحد الشخصيات التقليدية أو المقربة من السياسات التقليدية للنظام السابق، إلاَّ أن العلاقة لن تكون علاقة حاكم برعيته، بل علاقة قانون بمواطن، وعدالة بقانون، بمقاييس موحدة وعادلة، وثروات مملوكة لشعب، فمن يعمل يأكل، ومن يزرع يأكل، ومن يصنع يأكل، ومن يجتهد له نصيب، تلك الصورة التقريبة للعلاقة المستقبلية بين المجتمع المصري الذي استنشق عبق الثورة، ونظامه السياسي الذي لن يخرج عن إرادة شعب اختاره وحمله عبء المرحلة وتجلياتها.
والمقصود هنا بالنظام ليس اختزاله بشخص الرئيس فقط بل هو تعبير عن الهياكل والمؤسسات الرئيسية والتفصيلية لمكونات النظام السياسي بمؤسساته وقوانينه، وشخوصه، وشخصيته الإعتبارية والمادية، وقواه البشرية، المجسدة لمعادلة طرفيها مجتمع ونظام، مخرجاتها عدالة، وحرية، وديمقراطية، ورغم ذلك فإنه لا يعني بكل الأحوال والحالات عدالة عمر بن الخطاب – رضى الله عنه- بل العدالة في مفهومها النسبي، فالإطلاق سمة إلهية لا تنطبق على البشر.
4. العلاقات المستقبلية مع اسرائيل:
بعيدًا عن الحالة النرجسية التي يصبو إليها أي مواطن مصري أو عربي، أو نوع من الديموغوجيه السياسية في تصور الجانب التخيلي المندفع بالعاطفة والأمنيات في رسم العلاقة والحياة السياسية المصرية، التي تعتبر تعبيرًا عن الإرادة الاجتماعية، التي تتوفر لديها القدرة على تحديد الملامح الأساسية والرئيسية لصياغة العلاقات الاقليمية، أو منظومة العلاقات الدولية وخاصة في الحالة التي تجسدت بجمعة إعادة احياء الثورة، بأن المجتمع المصري أصبح لديه محرك أساس في الفعل، وهي الكرامة المجتمعية عامة، وكرامة المواطن خاصة، وأن هناك محرمات لا يمكن المساس بها، أو الإقتراب من خط تماسها، وعلى وجه التحديد مع قوة عدوانية عدائية مثل الحالة الإسرائيلية التي لها آثار في كل بيت مصري، من خلال ثلاثة حروب بل أربعة شنتها ضد مصر، وهي حرب سنة 1948م والتي كانت محركًا أساسيًا لتحرك الجيش المصري والضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر في ثورة 23 يوليو 1952م ضد الملكية وفسادها، وحرب سنة 1967م التي قدم بسببها جمال عبد الناصر استقالته ورفضها الشعب المصري، والعدوان الثلاثي سنة 1956م التي كانت ردًا على مصر لقيام الزعيم جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس، وحرب أكتوبر سنة 1973م التي قدم بها الجندي المصري ملحمة العبوّر، وما خلفته هذه الحروب من ثأر شخصي لكل مواطن مصري، مما ارتكبته اسرائيل من جرائم بحق الشعب لا زالت ماثلة بوجدان المجتمع المصري وأهمها قتل الأسرى المصريين، ومذبحة مدرسة( بحر البقر) وامتهان اسرائيل لكرامة الأرض المصرية والجيش المصري بكل المناسبات على الحدود الإسرائيلية – المصرية، واستخفافها بالدماء المصرية، والأهم تقييد الحرية المصرية في سيناء عبَّر اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979م، وهي مظاهر خلقت لدى الشعب المصري رفضًا مطلقًا لهذه الإتفاقية، ورفضًا مطلقًا لكلّ مظاهر التطبيع مع العدو الإسرائيلي، أضف لكل هذه العوامل التعاطف الديني والقومي والوجداني مع فلسطين قضية العرب الأولى والمركزية، وهي الحالة التي لم يستطع النظام السابق وأدها أو اخمادها بالرغم من كل ممارساته في الوعي الشبابي، وما تمارسه بعض القوى الحالية المرتبطة بامريكا وإسرائيل والنظام السابق، من تأجيج المشاعر الشعبية ضد غزة والفلسطينيين، واختلاق القصص والروايات البوليسية على نمط القصص (العدلية) في تفجيرات الكنيسة في الاسكندرية، أو بعض المركبات المفبركة المستهدفة تأجيج الوجدان والوعي الشعبي المصري ضد الفلسطينيين. بل كل هذه الحملات والخلفيات لا زالت في ذاكرة المجتمع المصري الذي تقدم للأمام ولم يعد للخلف، وترجمها بالرد الحاسم في رده على الإعتداء على جيشه المرابط على الحدود.
رغم هذه الحالة إلاّ أن الحالة المصرية – الإسرائيلية لن تدخل في أتون حرب في المدى القريب، وإنما الحرب ستتخذ منحى آخر هو إعادة النظر في اتفاقية كامب ديفيد، والتخلص من قيودها والشرنقة التي تقيد مصر، وهو ما تناولاه في الجزء الأول من هذه الرؤية العامة، وما دللَّ عليه خطاب المرتبك (نتنياهو) في تعقيبه على اقتحام الشباب المصري الثائر لسفارة اسرائيل بالقاهرة، أي ما يؤكد إدراك إسرائيل الفعلي بأن القوة المصرية الشعبية أعادت تنظيم العلاقة مع إسرائيل بمنطق الدولتين والسيادتين وليس منطق قوي يفرض، وضعيف يخضع. وهو تعبير عن فهم إسرائيل واستشفافها للواقعية السياسية التي فرضتها ثورة 25 يناير 2011م.
من هنا فإن إسرائيل اليوم في حالة ضعف سواء في أوضاعها الداخلية المأزومة، والمفككة، أو على مستوى اعتمادها السابق على سياسية إذلال واحتواء الأنظمة السياسية العربية، وهذه الأخيرة لم تعد بنفس الفعل السابق بعدما أسقطته الثورة المصرية بموقفها من الإعتداء الإسرائيلي على مصر أرضًا وجنودًا، وكرامة، والحراك والتملل في الأردن ضد السفارة الإسرائيلية، والمتغيرات التي فرضت نفسها، بحتمية الفهم التكتيكي بأن إسرائيل لن تجرؤ على خوض حرب مع أي طرف عربي أو تهديده كما كان سلوكها السابق المؤمن بتفوقها العسكري، وقدراتها العسكرية، وهو مؤشر يؤكد أن إسرائيل تراجعت عن شن ضربة ضد غزة خشية من التحرك الشعبي وخاصة في مصر.
فالناظم الأساس للعلاقة المستقبلية مع إسرائيل هو ناظم يتم تحديد محدداته من الجانب المصري وإدراكه للفعل المؤثر للشعوب وحركاتها، ومدى إلتزام إسرائيل بواقعية في تعاملها مع مصر شعبًا ونظام.
ومن المتوقع أن تبقى العلاقة الرسمية في إطار تمثيل ديبلوماسي في إطاره الناظم بتشريعات القوانين الدولية المنظمة للعلاقات الديبلوماسية فقط.
5. منظومة العلاقات المصرية اٌقليمية المستقبلية:
مثلت الحقبة الناصرية عمقًا قويًا في العلاقات المصرية الاقليمية، حيث أصبحت مصر القائد الفعلي والأساسي للسياسىة الإقليمية والعلاقات الأساسية، هذا العمق تم من خلال اضطلاع مصر بدور القائد سواء على المستوى الرسمي للدولة المصرية التي كانت قوة فاعلة في تشكيل منظمة دول عدم الإنحياز، أو الإعلان عن الوحدة المصرية – السورية سنة1958م، والدور المصري في القضية الفلسطينية وتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964م، أو الدور المصري في الحرب اليمنية سنة 1962م، وكذلك مساهمات مصر في الثورة الجزائرية سنة 1954م، وكذلك قيادتها للسياسة العربية عامة، وتأثيرها في السياسات الدولية، رغم المتناقضات والصراعات مع القوى الاستعمارية ومحاولاتها تقزيم الدور المصري كما فعلت بالعدوان الثلاثي سنة 1956م، مستهدفة تقويض الفعل المصري المؤثر في المنطقة.
هذه الحالة المصرية التي لم يحافظ عليها خلفاء الزعيم جمال عبد الناصر، وجعلوا من السياسة المصرية الخارجية سياسة أمنية تقوم على الفهم الأمني المحض كما تعاملوا مع القضية السودانية وانفصال الجنوب، وكذلك مع الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني، وموقفها من الحرب الأمريكية ضد العراق والعديد من القضايا الأساسية في المنطقة، مما جعل مصر تبدو وكأنها دولة صغيرة مفككة متهالكة، عدمية التأثير، وهو ما منح الآخرين قوة التجرؤ على مصر وشعبها.
أما في ظل الحالة الثورية الشعبية الحالية فإن منظومة العلاقات المستقبلية مع القوى الإقليمية العربية وغير العربية يتوقع أن تنطلق بناء على حقيقتين الأولى، المصالح المصرية العليا، واحترام الكرامة المصرية وحقوق المواطن المصري، والثانية بناءً على القضايا العربية والإسلامية التي سيكون لها عامل الحسم في صياغة العلاقات على المستوى الإقليمي، وتفاعل المجتمع المصري مع هذه القضايا، وهي معبَّر عن اصالة وعراقة هذا المجتمع العروبي المستوحاه من قيمه كمجتمع عروبي ساهم بفاعلية في صياغة مفهوم القومية العربية، والأصالة الإسلامية، والتي تعيد مصر لرأس القيادة والريادة في قيادتها للمنطقة، وكل المؤشرات تؤكد أن الدور المصري الريادي قادم لإحتلال موقعه الأساس في تحديد السياسات الإقليمية، ولعب الدور الأكثر تأثيرًا.
6. منظومة العلاقات المستقبلية مع المجتمع الدولي وقواه:
الحديث عن الأسرة الدولية بقواها الرسمية والرأي العام الشعبي يأخذ اتجاهين الأول، القوى المهيمنة على السياسة الدولية وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة الأمريكية ذات السطوة المؤثرة على المنطقة عامة، وعلى مصر سابقًا خاصة، ويتوقع أن يتم تنظيم هذه العلاقة بعقلانية وضمن حدود السياسات العامة الأمريكية في المنطقة التي بدأت تتخذ شكل آخر ومغاير لسياسات إدارة الرئيس ( بوش الإبن) والتغيير الذي شهدته الإستراتيجية السياسية الأمريكية في عهد الرئيس ( أوباما) خاصة وأن مصر تحتل موقع مميز سياسيًا وجغرافيًا في المنطقة، وسيطرتها على منافذ مائية وبرية هامة وأهمها على وجه التحديد قناة السويس، والأهمية المصرية في المنطقتين العربية والإفريقية، وهو ما يدفع الولايات المتحدة الأمركية لإعادة صياغة منظومة علاقاتها مع مصر وفقًا لمتغيرات ثورة 25 يناير، وربما زيارة ( كلينتون) وزيرة الخارجية الأمريكية لميدان التحرير ومحاولة مقابلة الثوار هناك، كانت بمثابة رسالة للثوار وللشعب المصري أن عهد جديد من العلاقات بدأ ينسج فرضياته وواقعيته، كما أن جمعة إعادة تأكيد الثورة أكدت للإدارة الأمريكية إنها أمام مصر بلا مبارك، مصر بثوار وارداة شعب له كلمته ودوره، وهو ما تحاول الولايات المتحدة بل والغرب إدراكه في تحديد ملامح وصياغة العلاقات المبناه على استراتيجية جديدة تحافظ على استقلالية وكرامة القرار المصري، وتحركاته السياسية، وإعادة العصا إلى دواليبها مرة أخرى، بعدما كانت تهوى بها على رأس النظام السابق مستخدمة أدوات من البعض في المنطقة العربية أو الإفريقية للضغط على مصر، وتعريتها كدولة كبرى في المنطقة.
أما الإتجاه الآخر فهو الرأي العام الدولي الذي رأى بثورة مصر انجازًا ثوريًا تاريخًا لن يتمكن التاريخ من تجاوزه دون التوقف طويلًا وبعمق أمامه، وهو ما ينظم الفهم والنظرة العامة لهذه المجتمعات للمجتمع المصري الذي أعاد بريقه مرة أخرى ليلمع وسط المرآه العاكسة لحضارة مؤثرة في التاريخ الإنساني.

CONVERSATION

0 comments: