تسود الآن رؤيتان لتفسير ما يحدث في المنطقة العربية، ويزداد الشرخ والمسافة بينهما يوماً بعد يوم. الرؤية الأولى تعتبر أنّ "العدوّ" في هذه المرحلة هو "الاستبداد" الذي يجب إسقاطه ولو من خلال الاستعانة بقوًى أجنبية. أمّا الرؤية الثانية فهي على الطرف النقيض، حيث تعتبر أنّ الخطر الأكبر في هذه المرحلة هو التدخّل الأجنبي في شؤون البلاد العربية، وفي السعي الدولي المحموم للهيمنة عليها من جديد، وبأنّ هذا الخطر يستوجب التسامح مع ما هو قائمٌ في داخل بعض الأوطان العربية من أوضاع دستورية واقتصادية وأمنية.
واقع الحال أنّ كلاً من الرؤيتن يحتاج إلى نقدٍ وتصويب. فمواجهة الاستبداد الداخلي من خلال الاستعانة بالتدخّل الخارجي، جلب ويجلب الويلات على البلدان التي حدث ذلك فيها، حيث تغلب حتماً أولويات مصالح القوى الخارجية على المصلحة الوطنية، ويكون هذا التدخّل نذير شرٍّ بصراعاتٍ وحروبٍ أهلية، وباستيلاءٍ أجنبيٍّ على الثروات الوطنية، وبنزعٍ للهويّة الثقافية والحضارية الخاصّة في هذه البلدان. أمّا "التسامح" مع الاستبداد من أجل مواجهة الخطر الخارجي فإنّه، عن غير قصد، يدعم كلَّ المبرّرات والحجج التي تسمح بهذا التدخّل. فبمقدار ما يكون هناك استبداد، تكون هنالك الأعذار للتدخل الأجنبي.
لذلك كان مهمّاً استيعابُ دروس تجارب شعوب العالم كلّه، بأنّ الفهم الصحيح لمعنى "الحرّية" هو في التلازم المطلوب دائماً بين "حرّية المواطن" و"حرّية الوطن"، وبأنّ إسقاط أيٍّ منهما يُسقط الآخر حتماً.
فهل ما يحدث الآن في المنطقة العربية هو تعبيرٌ عن هذا الفهم الصحيح لمعنى الحرّية؟!
طبعاً، من الخطأ وضع كلّ الثورات والانتفاضات العربية في سلّةٍ واحدة، ثمّ تأييدها والتضامن معها تبعاً لذلك. فالمعيار هو ليس المعارضة فقط أو أسلوب المسيرات الشعبية، بل الأساس لرؤية أيٍّ منها هو السؤال عن هدف هذه الانتفاضات، ثمّ عن هويّة القائمين عليها. فمنذ انطلاقة الثورة التونسية أولاً، ثمّ المصرية لاحقاً، تأكّدت أهميّة التلازم المطلوب بين الفكر والأسلوب والقيادات في أيِّ حركة تغييرٍ أو ثورة، وبأنّ مصير هذه الانتفاضات ونتائجها سيتوقّف على مدى سلامة هذه العناصر الثلاثة معاً. فالتغيير السياسي، وتحقيق الإصلاحات الدستورية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية، هو أمرٌ منشودٌ ومطلوب لدى العرب أجمعين، لكن من سيقوم بالتغيير وكيف.. وما هو البديل المنشود؟ وما هي تأثيراته على دور هذه البلدان وسياساتها الخارجية..؟ كلّها أسئلة لم تجد حتّى الآن إجابةً عنها في عموم المنطقة العربية، رغم أنّها مهمّةٌ جداً لفهم ما يحدث ولمعرفة طبيعة هذه الانتفاضات الشعبية العربية.
أيضاً، المشكلة في الموقف من هذه الانتفاضات أنّ المعايير ليست واحدةً عند العرب ككُل، فصحيحٌ أنّها تحدث على الأرض العربية وتترك تأثيراتها على المنطقة بأسرها، لكن ما هو معيارٌ شعبيٌّ عربيٌّ عام لدعم هذه الثورة أو تلك يختلف ربّما عن معيار أبناء الوطن نفسه. فمعظم العرب رحّبوا مثلاً بالثورة المصرية، لأنّها أنهت عهداً من سياسةٍ خارجية مصرية كانت لا تعبّر عن مصر وشعبها ودورها التاريخي الريادي، بينما المعيار الأهم لدى الشعب المصري كان مسائل داخلية؛ كالفساد السياسي للنظام السابق، والظلم الاجتماعي الناتج عنه، وغياب المجتمع الديمقراطي السليم.
إنّ حركات التغيير العربية السائدة حالياً تحدث على أرضٍ عربية مجزّأة، حيث ينعكس ذلك على طبيعة الحكومات وعلى ظروف المعارضات، كما أنّها تجري في منطقةٍ تتحرّك فيها قوًى إقليمية ودولية عديدة، لها أجنداتها الخاصة، وتريد أن تصبّ "تغييرات" ما في مصالحها، فضلاً عن حدوث هذه الانتفاضات بعد أن مضت مؤخّراً سنواتٌ عجاف، جرى فيها إطلاق الغرائز الانقسامية الطائفية والمذهبية والإثنية على امتداد الأرض العربية، من محيطها الأطلسي إلى خليجها العربي. وقد يكون الأهمّ في ظروف هذه الانتفاضات، وما يحيط بها من مناخ، هو وجود إسرائيل نفسها ودورها الشغّال في دول المنطقة (منذ تأسيس إسرائيل) من أجل إشعال الفتن الداخلية وتحطيم الكيانات القائمة لصالح مشروع الدويلات الدينية والإثنية.
وإذا كانت أيّة دولة تعني مزيجاً من (الحكم والشعب والأرض)، فإنّ السؤال الهام، الذي سيُطرَح أمام المتغيّرات القادمة في أيِّ من الدول العربية، هو: كيف الحكم، لأيِّ شعب، على أيِّ أرض؟!! علماً أنّه مهما جرى من اختلافٍ على طبيعة الحكم، فإنّ الحسم مطلوبٌ أولاً؛ لوحدة هذا الشعب، ولحرّية ووحدة هذه الأرض.
إذن، التغيير حاصلٌ في المنطقة العربية، بفعل التراكمات المتلاحقة للأحداث كمّاً ونوعاً في المجتمعات العربيّة، لكن السؤال المركزي هو: التغيير في أيِّ اتجاه؟ هل نحو مزيدٍ من السوء والتدهور والانقسام، أم سيكون التغيير استجابةً لحاجات ومتطلّبات بناء مجتمع أفضل؟!
هنا يظهر التلازم الحتمي بين الفكر والأسلوب في أيِّ عمليّة تغيير، كما تتّضح أيضاً المسؤوليّة المشتركة للأجيال المختلفة. فلا "الجيل القديم" معفيٌّ من مسؤوليّة المستقبل، ولا "الجيل الجديد" براءٌ من مسؤوليّة الحاضر. كلاهما يتحمّلان سويّاً مسؤوليّةً مشتركة عن الحاضر والمستقبل معاً. وبمقدار الضّخ الصحيح والسليم للأفكار، تكون الحركة من قبل الجيل الجديد صحيحةً وسليمةَ الخطى نحو مستقبل أفضل. فالغاية الوطنيّة الشريفة، مثلاً، لا تتحقّق إذا كان منطلقها، أو الأسلوب المعتمد من أجلها، هو طائفيٌّ أو مذهبيٌّ أو فئوي.
إنّ التّعامل مع سلبيّات الواقع العربي الراهن، والعمل لإيجاد بدائل إيجابيّة، يتطلّب أوّلاً تحديد جملة مفاهيم ترتبط بالهويّة وبالانتماءات المتعدّدة للإنسان العربي، وبدور الدّين في المجتمع، وبالعلاقة الحتمية بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، وبالفهم الصّحيح للعروبة وللمواطنيّة وللعلاقة مع "الآخر"، وفي التلازم المنشود بين القيادات الوطنية غير المرتهنة للخارج، وبين الفكر السليم لروّاد الحركة الشعبية السلمية اللاعنفية.
فالمسألة هي ليست في رفع شعارات الديمقراطية وإسقاط الاستبداد فقط، بل هي في كيفيّة الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد، وبضمان أنّ طريق الديمقراطية لن يمرّ في تجزئة الكيانات، إن لم نقل في إخضاعها للسيطرة الأجنبية أولاً!.
ثمّ ما هي آفاق السياسات الخارجية للبدائل "الثورية"، من حيث العلاقة مع القوى الكبرى وإسرائيل، وهل ستكون "الشرق أوسطية" هي الإطار الجامع لدول المنطقة أم ستكون هناك خطواتٌ جدّية من "الحكومات الجديدة" نحو تكاملٍ عربيٍّ شامل، يعزّز الهويّة العربية المشتركة، ويأخذ بالنموذج الاتحادي الأوروبي كصيغة مستقبلية للعلاقة بين الدول العربية؟
المنطقة العربية كلّها بحاجةٍ فعلاً لإصلاحاتٍ دستورية واقتصادية واجتماعية. كل المنطقة بحاجةٍ إلى العدل السياسي والاجتماعي. كل المنطقة بحاجةٍ إلى المشاركة الشعبية الفعّالة والسليمة في الحكم وقرارته. لكن هذا كلّه يحدث وسيحدث على أرضٍ غير مستقرّة، ولا هي موحّدةٌ ولا متحرّرة من أشكال مختلفة من الهيمنة الأجنبية والتدخّل الإقليمي. وهذا الأمر يعيدنا إلى مسؤولية قوى التغيير والمعارضات العربية، وإلى مقدار تنّبهها ألا تكون وسيلةً لخدمة أهداف ومصالح غير أهداف ومصالح شعوبها. هنا كانت المشكلة أصلاً في السابق، حينما عجزت هذه القوى عن البناء السليم لنفسها: فكراً وأسلوباً وقيادات، فساهمت عن قصدٍ أو غير قصد في خدمة الحكومات والحكّام الظالمين الفاسدين وأطالت بأعمار حكمهم، ممّا جعل شرارت التغيير تبدأ من خارج هذه القوى، ومن شبابٍ عربي يحتاج أصلاً إلى الرعاية الفكرية والسياسية السليمة بعدما قام هو نفسه بأسلوب تغييرٍ سليم.
فحبّذا لو يسبق أيَّ حركة تغيير وضوحٌ في الأهداف، وفي برامج العمل، وهويّة البدائل وطبيعتها، فربّما يشكّل ذلك حدّاً أدنى من الاطمئنان، ويحول دون ترك سير الأمور كَحَال من يصطاد في البحر ويجهل ما ستحويه شبكته بعد حين. فجوع الصياد وحده ليس هو المعيار.
ولا يجوز طبعاً أن تكون "الأساليب" السليمة مطيّةً لأفكار ومشاريع وقيادات غير سليمة، تعمل على سرقة التضحيات والإنجازات الكبرى، وتُعيد تكرار ما حدث سابقاً في المنطقة العربية من تغييرات، كانت تحدث من خلال بعض الانقلابات العسكرية أو الميليشيات المسلحة ثم تتحوّل إلى أسوأ ممّا سبقها من واقع.
الواقع العربي الراهن لا نجد فيه التوازن السليم، ولا التلازم المطلوب، بين المطالبة ب "الديمقراطية والعدالة"، وبين "الحرص على التحرّر والوحدة الوطنية والهوية العربية"، وبين "رفض أسلوب العنف وكافة أشكال التدخل الأجنبي". فمعيار التغيير الإيجابي المطلوب، في عموم المنطقة العربية، هو مدى تحقيق هذه الشعارات والأساليب معاً.
0 comments:
إرسال تعليق