مخطئ من يظن أن القيادة الفلسطينية، معارضةً وسلطة، أمناء عامين ورؤساء مكاتب سياسية، رموزاً وقياداتٍ فاعلة ومتنفذة، أنها هي التي تحفظ الحقوق الفلسطينية، وتتمسك بالثوابت الوطنية، وأنها هي التي تبقي على جذوة المقاومة مستعرة، وأن يدها دوماً على الزناد لم ترتفع، والبندقية على كتفها لم تزل، وأنها على استعدادٍ للعيش في الملاجئ والكهوف، أو في المخيمات ومعسكرات اللجوء، أو ملاحقةً ومطاردة، لتكون سجينةً خلف القضبان أو شهيدةً في جنان الخلد، أو أنها هي التي تفرض القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية، وتجعل منها خبراً يتصدر شاشات الأحداث اليومية، ومثالاً يعتز به العرب ويفخرون، وأنها هي التي ترسم الصورة الجميلة التاريخية المشرقة للشعب الفلسطيني، وتعكس تضحياته وعطاءاته وثباته وصموده وتحديه ومواجهته، وتفرض احترامه وتقديره لدى كل الشعوب.
يخطئ من يظن أن القيادة الفلسطينية بكل أطيافها السياسية أنها هي التي تقود الشعب الفلسطيني، وتحدد أهدافه، وترسم سياسته، وأنها تقاتل معه، وتقاوم إلى جانبه، أو أنها تتقدم صفوفه في جبهات القتال، أو سوح المقاومة، بقدر ما تتقدم الصفوف في الاحتفالات والمناسبات والزيارات والاستقبالات ومهرجانات التكريم والوفاء لمن هم أحق منها بالوفاء، وأجدر من كثيرٍ منها بالتقدير والتقديم، مخطئ من يظن أن هذه القيادة تعانى مثلهم، وتكتوي بنار الحرمان كغيرهم، ويضيق عليها وعلى أسرها العيش في الرزق والإقامة والسفر والترحال، وأنها تضطر للانتظار طويلاً في الطوابير وضمن قوائم الانتظار لتلبى حاجتها كبقية أبناء شعبها، وتتعرقل مهماتها وتتعقد لأنهم فلسطينيين كغيرهم من أبناء وطنهم المعنى الجريح.
مخطئ من يظن أن هذه القيادة تشعر بمعاناته، وتحس بآلامه، وتتأثر بما يلاقي ويواجه، وأنها لا تنام الليل حتى يرتاح، ولا تملأ بطونها حتى يشبع أبناء شعبها، وأنها لا تضحك ملء شدقيها وكثيرٌ من أبناء شعبها يبكون الفقد والغربة والقيد والحرمان، مخطئ من يظن أنها تسعى للتخفيف عن شعبها، أو رفع الحصار المفروض عليه، أو أنها تعمل لرفع الظلم عنه، وإعادة الحق إليه، ونصرته إن ظلم، ومساعدته إن احتاج، ومساندته إن وقع في ضائقةٍ أو حاجة، بل يخطئ من يظن أنها قيادة لا تظلم ولا تعتدي، وأنها لا تسئ ولا تخطئ، وأنها تسوي ولا تهدم، وأنها تعدل ولا تظلم، وأنها لا تحابي ولا تقرب، ولا تبتز ولا تنتهز، ولا تكذب ولا تفتري، ولا تخون ولا تغدر، ولا تشتري الذمم ولا ترهن الضمائر، وأنها لا تسقط ولا تسجل، وأنها لا تصور ولا تدون، وأنها لا تساوم ولا تقايض، تفرح للمصيبة التي تحل بشعبها، وتحزن للفرج الذي يمن الله به على شعبها.
تلك قيادةٌ عقيدتها مصالحها، ومنهجها منافعها، وقبلتها جيوبها، وغاية رضاها موائدٌ وحساباتٌ وشقق وبناياتٌ ومساكنٌ ومزارع، وعدتها رجالها ممن يناصرونها في مواقفها، ويؤيدونها في غيها وضلالها، ويدافعون عنها في باطلها وفسادها، همهم مكانٌ بعيداً عن الوطن يقيمون فيه، ودولةٌ يتمتعون فيها بالامتيازات والتقدمات، يعاملون فيها معاملة الرؤساء والوجهاء، ويحرصون فيها على اللباس والهندام، وعلى الشكل والمقام، فتكون لهم المكانة، وسط جمهرةٍ من الحراسة، وكوكبةٍ من الرجال والسيارات، يسيرون بينهم بخيلاء فلا تكاد تقع العيون عليهم، لكثرة من يحيطون بهم، ويحولون بينهم وبين شعبهم، لئلا تصل إليهم أيدي أهلهم، أو شفاه أبناء شعبهم، مخافة أن يلوثوهم بقبلة، أو ينقلوا إليهم عدوى مرضٍ بالمصافحة، أو بقايا عرقٍ في أيديهم أو متصببٍ على جباههم السمراء التي لوحتها شمس اللجوء الحارقة.
أما عقيدة الشعب البسيط صاحب الحق ومالك القضية، حامل لواء المقاومة، والقابض على جمر المواجهة، والثابت على النهج، والمتمسك بالانتماء والهوية، فهي الوطن بكامله، والتراب بكليته، والمقدسات جميعها، والتاريخ بما حمل، والمستقبل بما يخفي، وعدتها في ذلك أرواحٌ تبذلها، ومهجٌ تقدمها، وأعمارٌ تفنيها، وحياةٌ تتخلى عنها، وأطفالٌ وأهلٌ تستودعهم الله سبحانه وتعالى، فلا يلتفتون إلى شئٍ مما يبهر عيون الآخرين، ويعمي بصائر المدعين، ويطمس على قلوب المتاجرين، فهم يفنون العمر كله من أجل نضاء قضيتهم، وبهاء مقاومتهم، ونقاء صفحة نضال شعبهم، لا يهمهم عزٌ مفقود، ومجدٌ ضائع، واستقبالٌ ناقص، وترحابٌ غير لائق، ومكانٌ بين الصفوف غير مقدم، وحضورٌ مجهول بين الناس مغمور، فغاية الرضا عندهم بسمةٌ على شفاه أطفال شعبهم، والسعادة عندهم في يومٍ ينتقمون فيه لأهلهم من عدوٍ ظلمهم واستعلى عليهم، فليومٌ باردٌ عاصفٌ مطيرٌ، يلفه زمهريرٌ مظلم، يقضونه في مواجهة عدوهم، وقتال من اغتصب أرضهم، ونال من حياة أبنائهم، أغلى وأعز عليهم من ليلةٍ دافئة، في ظل أضواءٍ مبهرةٍ وأصواتٍ وهتافاتٍ صاخبة، وجموعٍ محتشدة، تحتفي وتحتفل، وترحب وتمجد، وتبارك وتهنئ، فهؤلاء غايتهم الوطن، وعقيدتهم قتال أعداءه، والانتصار لشعبهم مهما كان ثمن الانتقام، وكلفة المواجهة.
عقيدة الصغار من أبناء الشعب الفلسطيني أشد وأقوى من عقيدة الكبار، بل إنها أبقى وأثبت، وأنقى وأطهر، وأصدق وأبلغ، وأقرب إلى النصر، وأدعى إلى التضامن والمساندة، والنصرة والمساعدة، فهؤلاء لا يلتفتون إلا إلى نصر الله يتنزل عليهم، ورحمته تظللهم، فتراهم مرابطين ببزاتهم العسكرية أو بثيابهم المدنية على تخوم الوطن، وفي مواجهة قوات الاحتلال، لا يخافون دباباته، ولا يحسبون حساباً لبنادق جنوده المصوبة، بل يتربصون به، ويتحدون اقتحامهم، ويباغتونهم حتى في دباباتهم، وهم في حصونهم المنيعة، إنهم يقاتلون من أجل شعب، ويدافعون عن حق الأمة، ويسعون لاستعادة وطن، وتخليص الأرض وتطهير المقدسات، إنها عقيدتهم التي ورثوها عن أسلافهم، وهي التي سيورثونها لأحفادهم من بعدهم، نقيةً صادقةً خالصة، بلا مصالح شخصية، ولا منافع ذاتية، هدفها محدد وغايتها معروفة، ومنهجها ثابتٌ وطريقها جليٌ واضح.
0 comments:
إرسال تعليق