أي ظاهرة تجد من البحث الكثير، والتعمق في جوانبها وتجلياتها المختلفة والمتنوعة، وخاصة إنّ اتخذت هذه الظاهرة سواء طبيعية أو اجتماعية أو سياسية شكل ومنحى التغيير المؤثر في الأحداث أو التركيبة القائمة، وعملية البحث تعتمد على مناهج البحث العلمي التي من أهم أسسها ومبادئها حياد الباحث، وموضوعيتة في تناول هذه الظاهرة وتحليلها، والخروج بنتائج موضوعية وعلمية تمثل أساس لفعل الحركة للمتتبع لهذه الظاهرة، أو القارئ الطبيعي وخاصة البسيط الذي يعتمد على إنتاج الباحثين والمثقفين من حوله.
ومن أهم الظواهر الاجتماعية- السياسية التي تشغل الرأي العام العالمي، والاهتمامات العالمية، هي المتغيرات والتطورات التي بدأت في المنطقة العربية أواخر سنة 2010م انطلاقاً من تونس، وانتشاراً في بعض الدول العربية الأخرى، مثل مصر وليبيا، وسوريا، واليمن، والبحرين...إلخ، والتوقع للعديد من الجمهوريات العربية الأخرى، غير المستقرة بأوضاعها السياسية والاجتماعية، والمرشحة لإعادة ترتيبها.
هذه الظاهرة أو الأحداث تأخذ في ظاهرها وقشورها الثورات ضد الظلم، والقهر الذي تعاني منه الشعوب العربية من أنظمتها الحاكمة، في حين أن الحقائق الباطنة تحمل في طياتها ما هو أبعد بكثير من هذه الثورات، والغايات، وهي الحقيقة التي تترابط عناصرها وتتفاعل كيميائياً في المختبرات السياسية غير المرئية، ما يصبغ أي تحليل أو تفسير لهذه المجريات بضرورة العودة إلي الخلفية الأيديولوجية للباحث والكاتب، وكذلك الخلفية السياسية وقوانين الولاء والانتماء السياسي لأطراف المعادلة في المنطقة، ورؤية الباحث للصراع وخلفياته العميقة في المنطقة، والبعد الأساس للقضية الفلسطينية المركزية، والأكثر تأثيرًا في الأحداث ومجرياتها، وعمق هذه القضية في الرؤية التحليلية للظاهرة التي نحن بصددها، ولنكون أكثر دقة وموضوعية في الطرح، ستعتمد على منطق التحليل وليس البحث في طرح العديد من الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها بحيادية، دون الارتكاز على مفهوم(الدائرة المغلقة) في تناول تسلسل الظاهرة وتفسيرها، كمحاولة للمحاورة مع القارئ قدر المستطاع.
ربما السؤال المركزي الذي يطرح نفسه بقوة في خضم تناول هذه الأحداث( الثورات) في المنطقة العربية على وجه الخصوص، وبدول معينة لها ثقل في مجريات الأحداث، وتوازنها في المنطقة، السؤال يتبلور في كيان أو قطب أوحد يسيطر على السياسة الكونية بعد انهيار القطب الآخر في عقد التسعينات من القرن الماضي، ألاّ وهو الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الشرقية أو الاشتراكية، وانصهارها في المنظومة الرأسمالية التي تقف على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بناءً عليه، هل الولايات المتحدة الأمريكية هي الرابح أم الخاسر من أحداث المنطقة العربية؟ وهل الحراك العربي يأتي في السياق المضاد للسياسات الأمريكية في المنطقة؟!
لصياغة أو لنصيغ ملامح الإجابة كما وأسلفنا بأكثر منطقية وموضوعية لا بد من إعادة قراءة الأحداث منذ تواترها في المنطقة العربية، وعلى وجه الخصوص انتصار العراق في حربه الطويلة مع إيران، وما تبع هذا الانتصار من أحداث متواصلة الحلقات، ومنطق (الدائرة المفتوحة) التي أصبحت تدور بها الأحداث، وتتابعها ضمن منظومة وتسلسل يوحي للمتتبع عمديه هذه الأحداث في دائرة ممنهجة ومخططة، معلومة الاتجاه، مختلفة السيناريوهات ومتنوعة تتوافق والتوجهات الشعبية والرأي العام الشعبي في المنطقة العربية والإسلامية، وهو ما يقودنا للخوض مباشرة في سلم الإجابة عن السؤال السابق، وتناول الأحداث بعين مجردة، ودون انحياز أيديولوجي أو سياسي أو إقليمي ومحلي.
فالولايات المتحدة منذ الأزمة الكويتية، والحلف الثلاثيني الذي شكلته ضد العراق كقوة منتصرة في الحرب العراقية – الإيرانية واجهت حقيقة بأن هناك قوة عربية فتية تمتلك من الإقتصاد والثروات، والقوة العلمية البشرية، ما يمكن إحداث خلل في البباء الإقليمي الذي تقف إسرائيل على رأسه وحيدة دون تهديد من أي قوة أخرى، وهو ما تسعى إليه الولايات المتحدة التي دعمت النظام العراقي في مرحلة الحرب، بإستراتيجية إخراج القوتين العراق وإيران أكثر ضعفاً وتخلفاً واستنزافاً من حرب طويلة، ومدمرة على مدار ثمانية سنوات مستمرة، وهو ما استطاعت إدراكه فعلياً بحصار العراق اقتصادياً، وعسكرياً كخطوة أولى لتدميره كدولة قائمة بمؤسساته وقواه الأساسية، واحتلاله والسيطرة على مقدراته سنة 2003م بعملية متدحرجة تصبو نحو هدف واحد، إعادة العراق لمراحل متخلفة بقواه الإقتصادية والسياسية والاجتماعية.
السياسة الأمريكية التي اتبعتها الولايات المتحدة في المنطقة العربية والإسلامية، سواء بتدخلها في الكويت أو أفغانستان ومن ثم احتلال العراق، وضعها في مواجهة مباشرة مع الرأي العام الشعبي العربي والإسلامي، كقوة استعمارية مندفعة صوب السيطرة والهيمنة الشاملة بعدما تتبع السيطرة والهيمنة الجزئية(الخفية) من خلال فرض سطوتها وسياساتها على الأنظمة، والانتقال من الهيمنة الجزئية إلي الهيمنة الشاملة على الأرض، مما عرضها لمواجهة شاملة سواء في الداخل الأمريكي أو في المنطقة، وإلحاق العديد من الهزائم بالقوات الأمريكية سواء في العراق أو أفغانستان، مما دفعها للبحث عن مخارج أكثر قبولاً للرأي العام الأمريكي من جهة، وللرأي العام الشعبي العربي من جهة أخرى. وهو ما يتطلب البحث عن بدائل أكثر طهراً وشرعية تمكنها من تمرير سياستها، وبسط سيطرتها على المنطقة.
خلال هذه الحقبة بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بعملية القصف الفكري للشعوب العربية والإسلامية، وخاصة فئة الشباب الذي استغل التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة في الانفتاح على العالم، واستلهام الثقافات الغربية الأكثر انفتاحاً، وديمقراطية، واحتراماً للإنسان، وغزو المنتديات والتشكيلات المدنية الحياة الاجتماعية العربية بمسميات ثقافية وديمقراطية، كان لها دور فاعل في استقطاب الشباب العربي الذي بدأ يكتسب قيم مؤثرة في بنيته الشخصية، وتكوينه الفسيولوجي، بشكل مؤثر، عمق منه الحالة الاستبدادية السياسية والاجتماعية في الواقع العربي، نتيجة الممارسات والسياسات للديكتاتوريات السائدة، والتي كانت تمارس ديكتاتوريتها واستبدادها بحماية ورعاية، ورضى الولايات المتحدة الأمريكية، التي حاولت الإيحاء بأنها تقف بجانب الشعوب وحقها في الحرية والديمقراطية كما فعلت مع تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، بالرغم من أن الأنظمة التونسية والمصرية واليمنية من الحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وأحد مكونات السياسة الأمريكية، وهو ما يطرح سؤال أخر، ما هي المتغيرات التي أحدثت هذا التحول في الموقف الأمريكي تجاه هذه الأنظمة؟!
السؤال الأخير مستببط من التساؤل الأول، وهما في نفس الفلك، كلّ منها يكمل الآخر، وربما الشرح المسهب نوعاً ما للحالة العربية بعد الحرب العراقية- الإيرانية يوضح المدخلات الأساسية لحالة التحول في الموقف الأمريكي.
إذن، فعودة لما نحن بصدده ولمركزية سؤالنا هل الثورات العربية في صالح أم ضد الولايات المتحدة، وأطماعها؟! ربما المتأمل والمتعمق بالثورات العربية يلحظ إنها ثورات افتقدت للإمتداد الأفقي وكذلك الإمتداد العمودي، أي بمعنى أنها تحركات شبابية عفوية، وتلقائية بدأت كحركة احتجاجية في تونس، ثم تطورت بفعل العديد من المؤثرات الداخلية، والخارجية، بلغت ذروتها في نفي الرئيس التونسي (زيد العابدين بن علي) بالإجبار بمشهد يوحي بالهروب، أقرب للدوائر الاستخباراتية التي تعمل تحت مسمى(التطهير النظيف) أي التخلص من بعض العملاء بالقتل بمشهد يوحى بانتحارهم، وهو أسلوب رئيسي تعتمد عليه معظم أجهزة الاستخبارات العربية على سبيل الحصر، وهو ما تم ممارسته مع الرئيسيين التونسي والمصري، ويضعنا أمام سؤال عن القوة الإجبارية لتي قامت بهذا الدور في الخفاء؟ وهو الأسلوب الذي تم إسقاطه بالحالة الليبية التي اعترضها(معمر القذافي) فوجه أسلحته وغضبه ضد القوى المستثورة، وكاد فعلاً أن يقضي عليها، مما دفع الولايات المتحدة والغرب لعملية تدخل سريعة بضغط من قبل قطر ودول الخليج على الجامعة العربية لمنح التحرك الغربي شرعية عربية، ومنح التدخل الغربي- الأمريكي وجه حضاري تحت عنوان(إنقاذ ثوار ليبيا والشعب الليبي) وهي الحقيقة التي كشفها تقرير(بالمر) الذي تم تسريبه بما يتعلق بحصار غزة، والتحقيق في جريمة مهاجمة أسطول الحرية من قبل إسرائيل، حيث أكد هذا التقرير الحقيقة التي حاول العرب القفز عنها، رغم إدراكها جيداً أن هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ما هم سوى مؤسسات تشريعية للقوى المنتصرة بالحرب العالمية الثانية، وتؤدي دور عصبة الأمم التي فرضت سايكس بيكو والإنتدابات لنفس القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.
هذه الحقائق المتشعبة تضع المواطن العربي عامة، والفلسطيني خاصة في خضم معركة داخلية عنيفة، متعددة الإتجاهات سواء نحو الموقف التركي المتقدم بسرعة بإتجاه معاكس مع إسرائيل بالرغم من أن تركيا عضو في حلف الناتو، وحليف مركزي وأساس للولايات المتحدة الأمريكية، وموقفها من التدخلات في ليبيا على وجه التحديد، والتناقض بين السياسات المتعلقة بالمتغيرات في المنطقة والقضية الفلسطينية، وهي ما تحتاج للتعمق في هذه الحالة بعمق لكي يتم تحليل وفهم الموقف التركي المتقدم بخلفياته السياسية، والاقتصادية، والأيديولوجية، وهي حالة بإختصار توضح مدى القدرة التركية على اللعب بكل الأوراق المبعثرة في المنطقة، والقدرة على الاحتفاظ لنفسها بمساحة ومسافة توافقية تحفظ لها دورها ومصالحها سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي أو المحلي التركي، مما يؤكد الفهم المبدع للقيادة التركية المخططة للسياسة في تلك الحقبة المعقدة.
وبعيداً عن الموقف التركي وخصوصيتة نعود قليلاً لما نحن بصدده، والموقف الأمريكي من المزاوجة أو الإزدواج في السياسة الأمريكية اتجاه حقوق الشعب الفلسطيني، وممارسات إسرائيل، وانحيازها لصالح الأخيرة، في الوقت الذي تحافظ في خطابها السياسي على حقوق الشعوب العربية بالحرية والديمقراطية، والرابط الفلسفي غير المعلوم بين هذين المتناقضين الرئيسيين في الموقف الأمريكي، والذي بحركة من الوعي المستلب من الوجدانيات يعطي إجابات أكثر عقلانية ومنطقية، دون استخارة العاطفة اتجاه الموقف من الأنظمة ودكتاتوريتها، واستبدادها، وهي الحالة الحاسمة في تحديد معالم الانحياز المتهور، دون الارتكاز للتحليل المترابط سياسياً وتاريخياً، واقتصادياً، وقراءة مفهوم الصراع المتطور من العسكرة إلى الرأسملة، ودور مصادر الطاقة الأزمة العالمية القادمة، وإستراتيجية الجغرافية التي لعبت دور الحسم في الصراع السياسي العالمي قديماً وحديثاً، مما يضع العديد من النقاط فوق الأحرف المجردة والعصية على القراءة، وكذلك يحسم عملية الانحياز الشخصية الذاتية لتحديد درجات ومؤشر اتجاه البوصلة في إعادة إنتاج المنطقة، وإعادة تحديد معالم المستقبل.
فالقراءة تؤكد إلى جانب ما سبق أنّ هناك اندفاع مفاجئ نحو إعادة إحياء التراث الملكي الذي كان سائد في العقود الأولى من القرن الماضي، والإنقلاب على حقبة الثورات التي قضت على الملكيات العربية، وهو يطرح علامات استفهام عديدة تتطلب الإجابة عنها، وقراءة التاريخ بعمق، ونشوء وتكوين اتجاهات الجماعات والمتغيرات الثقافية الحاسمة في مسيرة الشعوب، من باب تكوين اتجاهات أكثر موضوعية، ومنطقية في قراءة الأحداث، و الدور الأمريكي في المنطقة.
حالة استشعارية بمثابة دعوة للتفكير أو إعادة التفكير في استنهاض تجارب الشعوب الحية في معركة التحرير، والاستناد إلى قوى ساهمت في استنهاض هذه الحركات الثورية، وعلى وجه التحديد العربية التي تشابهت في هيكلها الظاهري، وأهدافها الباطنة، في تركيز مفهومها وتحركاتها في إسقاط النظام ومن ثم اختصاره في إسقاط شخص الرئيس، وهي الحالة المؤكدة عملياً في النموذجين المصري- التونسي- الليبي، حيث يلاحظ سرعة التحول المفاجئ لرموز النظام العسكري الثوري دون سابق إنذار، أي بإيحاء أشبه بالانتقال من معسكر لمعسكر مجرد خلع البدلة الرسمية النظامية، وارتداء ثوب الشباب والثوار، والتناغم مع لغتهم، مما يعيدني لحالة تم المرور عليها، ألاّ وهي افتقاد الثورات العربية للبعدين(الأفقي والعمودي"الرأسي") أي افتقادها للأيدولوجيا البديلة للأيدولوجيا الحاكمة، وافتقادها للرأس القيادي أو الجسد القيادي، وهي منتج ليس عفوي أو تلقائي وإنما عمدي وممنهج، لمنح الثورات بُعد إسقاط الهيكل العام للنظام في حالة فوضى، وذوبان لمؤسسات الدولة السياسية والمدنية والأمنية، وانخراط المجتمع بحالة فوضى عامة تحمل مسميات حرية تتسلل منها، الجريمة بأشكال مختلفة، والعربدة تحت منحى حرية الرأي والتعبير، والطائفية والمذهبية، وهي حالة لا زالت في تونس ومصر رغم مرور عدة أشهر على إسقاط الأنظمة أو رؤوس الأنظمة.
ولنخرج من حالة الإامتزاج والتشعب، في شتى جوانب الأزمة الحالية، يمكن استشفاف حالة التنوع والتعدد في الأساليب حسب البيئة الاجتماعية، والسياسية، والخصوصية الاقتصادية، والجغرافية، وهي الركائز التي يتم وفقها التعامل مع كل حالة على حدة، وبالكاد تشابهت الحالتين التونسية- والمصرية في السيناريو، في حين اختلف في ليبيا على وجه الخصوص، وكذلك في اليمن، والبحرين، وسوريا، والحياد الأمريكي بما يتعلق بالحراك الذي شهدته إيران، وحالات ما حدث في بريطانيا وما يحدث في إسرائيل.
فإن كل الشواهد تؤكد على حقيقة حتمية أن المنطقة تشهد إعادة صياغة وإنتاج للدور الأمريكي على المستوى الشعبي يساهم فيه العديد من اللاعبين، وعلى وجه التحديد الخليج العربي وقطر، ووسائل إعلام عربية تمتلك وسائل احترافية في استقطاب الوعي الشبابي والشعبي العربي، وقيادته نحو دائرة مغلقة مظلمة دون أي بصيص من النور يوضح معالمها.
وهو ما يقودني مرة أخرى لترك السؤال في ذهن القارئ، هل مصالح الولايات المتحدة مع أو ضد الربيع العربي؟!!
0 comments:
إرسال تعليق