يقول الدرويش:
وأنت كنخلة في الذهن
ما انكسرت لعاصفة وحطاب
وما جزت ضفائرها
وحوش البيد والغاب
ولكني أنا المنفى خلف السور والباب!
نعم: هُم خلفَ السور والباب، ونحنُ المنفيّون في وطن لم يعد له باب، تشظى لحطام بِفعل الإنقسام، وطحنت أضرسهُ لحم الضآن في غابات الذئاب اللئام، فعجزنا عن الركض في كل الإتجاهات، ولازمنا البيوت كأطفال لا تملك بيدها حجرُ تقاوم به الأعداء، وكسرت الأقلام ولم تعد تكتب إلاّ نفاق، ودجل، وخيبات.
أسرانا الأبطال يخوضوا لليوم الثامن على التوالي معركة الأمعاء ضد سجانهم، وقيدهم، من أجل مطالبهم العادلة التي نصت عليها التشريعات الدولية والقانونية، بما أنهم أسرى مقاومة، وأسرى حرب في معركة التحرير ضد الصهيونية المجرمة، التي تحاول بممارساتها ضد الأسرى سلبهم إرادتهم وصمودهم خلف القضبان والقيد، من خلال تجريدهم من منجزاتهم التي انتزعوها بفعل تضحيات جسام من الحركة الأسيرة، التي قدمت أكثر من ربع الشعب الفلسطيني، وشبابه وشاباته، في معركة الإنتصار الطويلة والمؤلمة، مع عدو لا يفقه أي لغة سوى لغة المقاومة، والمواجهة.
ليست المعركة الأولى التي يخوضها أسرانّا الأبطال، فرسانٍ القيد، وشموع الحرية التي تركها الجميع تنزف دموعها، وتصرخ بآنين الوجع القاهر مِن حالنا الفلسطيني المنقسم والمتشظي، وحال مثقفينا الذين لم يعلموا بعد أن هناك سبعة آلاف أسير فلسطيني يخوضوا معركة أمعاء خاوية منذ ثمانية أيام، ويواجهون نازية الباستيلات الصهيونية، وسوط السجان، وعضة الجوع لوحدهم في معركة غاب عنها شعبنا الفلسطيني لأول مرة، ولم يتفاعل معها، بما كان متوقع، خاصة في حالة الخصوصية التي يحتلها هذا الأسير، الذي يعتبر في مرتبة الشهداء مع وقف التنفيذ، وكذلك غياب وسائل الإعلام الفلسطينية التي لم ترتقِ لمستوى الحدث وأهميته، ولا أعلم أي أهمية بعد قضية الأسرى يمكن أن يتفاعل معها المثقف الفلسطيني، والإعلام الفلسطيني، بعد قضية الأسرى.
يخوض الأسير الفلسطيني معركته في مرحلة غاية بالخطورة سواء على المستوى الوطني المحلي الذي يعاني من ترهلات المصالح الحزبية، وحالة التجاذب بين حركتي فتح وحماس، والجدل الدائر حول استحقاق أيلول وطلب الرئيس محمود عباس الحصول على عضوية الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، وكذلك على المستوى العربي الذي يعيش حالة استثوار أو ثورية شعبية في العديد من بلدانه ودوله، وهي الحالة التي كان يمكن استغلالها لصالح قضية أسرانا الفلسطينيين، والضغط على الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من خلال الشعوب، واستنهاض الحالة الشعبية العربية التي لن تدير وجهها وظهرها للأسير الفلسطيني، أو للقضية الفلسطينية، ولكن! لا زالت السياسة الفلسطينية الرسمية تتخبط فيما بينها، وتتجاذب حول مصالحها الحزبية، وتتناسى قضية الأسرى ومعركة الأمعاء التي يخوضوا معتركها منذ ثمانية أيام.
الكثير يتساءل عن الفعاليات التضامنية والداعمة للأسرى الفلسطينيين في معركتهم، ونوعية هذه الفعاليات، ولماذا اختفت فجأة؟ بداية من جامعاتنا التي كانت دومًا على رأس الحركة الوطنية، وقضاياها الأساسية والثانوية، وها هي حركتنا الطلابية اليوم تقف مكتوفة الأيدي أمام معركة الأسرى نتاج حالة التيه والتشرذم التي تعيش فيها، وتتخبط في أمواج مصالحها الحزبية، فكل إطار طلابي لا يستطيع البوح إلاّ بما يحقق مصالحه الحزبية، فتم التعامل مع قضية الأسرى ومعركتهم كقضية حزبية، وهو ما أفقدها أهم روافدها الحافزة والداعمة، ألاّ وهي الحركة الطلابية الجامعية على وجه الخصوص، وبذلك افتقدت للمحرك الفاعل الأساسي في عملية تحريض وتثوير الشارع الفلسطيني.
ثم وسائل الإعلام الفلسطينية التي افتقدت لرشدها الوطني أمام حالة الاغتراب التي تعيش في خضمه، وتحولها لوسائل إعلام حزبية كل أهدافها التشهير، والتخوين بالآخر فقط، واصطف لجوارها المثقف الفلسطيني الذي تحول من مثقف إنتصار لمثقف اصابه العمى الوطني، وخانته أمانته التي خولها له قلمة، وأصبح المثقف لا يبحث سوى عن قضايا تقربه من ذوي السلطة والجاه في رحلة الاسترزاق التي يلهث خلفها، فمنذ ثمانية أيام لم يحاول المثقف الفلسطيني المشاركة مع الأسرى في معركتهم البطولية التي يخوضوها ضد السجان والقيد، وغض البصر عما يسمع لكي لا يتكلم، ولا يقول، فقضية الدولة واستحقاقها أهم لديه من قضية الأسرى خلف القضبان لأنها أي الأولى تجلب له الإفادة أما الثانية (الأسرى) فهي توجع دماغه، ولا تجني له أي أرباح خاصة، فمن كانوا يلهثوا خلف الفضائيات والميكروفانات ابتلعوا ألسنتهم، وإلتزموا بيوتهم وكأن فصل الشتاء برده قارس لا يقوا على الظهور به.
أما شعبنا الفلسطيني فهو الصادم بسكونه وصمته أمام المذبحة المرتبكة بحق أسرانا الأبطال الذين يخوضوا معركتهم البطولية، وربما هذه الحالة تعبير عن حالة سخط ولا مبالاة استطاع الإنقسام أن يدفع إليها أبناء شعبنا البطل الذي لا يمكن له الاستسلام والخضوع، بهذه الحالة المريبة الغريبة، ولكن رهاننا على شعبنا أكبر من كل الحسابات والمراهنات، ولا بد أن ينهض عملاقنا الفلسطيني وينصر أبنائه وفلذات كبده، والأشرف منا كلنا أسرانا الأحبة.
أما على الصعيد الرسمي فإن المواقف الرسمية من كلا الاتجاهين في الضفة الغربية وغزة، فإنه يدمي القلب ويعبّر عن حالة مقيتة مريبة من الصمت واللامبالاة أمام معركة أسرانا الأحبة، ولا يتحركوا سوى مع كاميرات الإعلام للتصوير وتسجيل موقف أمام الفضائيات ونشرات الأخبار، دون التحرك الرسمي سواء على المستوى الدولي الرسمي والشعبي، أو على مستوى مؤسسات حقوق الإنسان العالمية لتمارس ضغطها على إسرائيل، أو على المستوى الرسمي والشعبي العربي، وأصبحت سفاراتنا لا تبالي إلاّ بالاحتفالات الرسمية والفعل الروتيني اليومي، بالرغم من إنها كان يمكن لها أن تحقق الكثير في تحركها الدبلوماسي الرسمي لصالح قضية أسرانا الأبطال.
إنها الحقيقة وما أصعب الحقيقة وأنت تعيش فصولها ولا تستطيع أن تغييرها أو تقاومها، فتصمت وتصمت وكأن الموت أحدق بك من كل صوب.
النصر لأسرانا الأبطال في معركتهم البطولية..... والحرية التامة والكلية لهم.
0 comments:
إرسال تعليق