في النصف الأول من القرن العشرين شخص الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي حجم التحريف والانحراف الذي قاد حياتنا وشعوبنا وبلداننا فعانينا منه ولا زلنا نعاني ونتألم، يوم قال في واحدة من قصائده الغراء:
علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرف
وفي بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين يوم جاء ما يعرف بالربيع العربي ليكشف استمرار التزييف ودوام الخدعة وتمادي الانحراف تبين أن الأعلام الثورية التي اختارها رجال الانقلابات العرب كبديل للأعلام الأولى، هذه الأعلام التي أصبحنا نقدسها ظاهرا، لا تملك حتى الشرعية الدستورية التي تجيز رفعها في سماء الوطن لأنها هي الأخرى محرفة عن معناها الصحيح تحريفا كاملا، وتبين أن شبابنا كانوا أكثر منا جرأة يوم رفضوها وانزلوها عن صواريها وداسوها بالأقدام وأشعلوا فيها النيران ثم استبدلوها طواعية بالأعلام القديمة، فالشعب الليبي البطل أنزل علم الفاتح من أيلول الأخضر من على صاريته واحرقه وداسته أقدام الثوار الشباب، ورفع بدلا عنه العلم القديم الذي يعرف باسم علم الاستقلال والذي استخدم للمرة الأولى بعد استقلال ليبيا وإعلان المملكة الليبية المتحدة، وقد وضعت تصميمه هيئة تشريعية ليبية عام 1951والغي استخدامه بعد الانقلاب الذي قاده القذافي.
والشعب السوري احتقر علم النجمتين الذي اعتمد عام 1980 ورفع العلم القديم الذي اعتمد عام 1932 ثم الغي في عام 1958 وأعيد إلى الخدمة عام 1961 ليتم إلغاءه نهائيا عام 1963 وأستعيض عنه بعلم الوحدة ذو النجمات الثلاث، الذي لم يصمد هو الآخر طويلا.
وفي العراق ومنذ التغيير في 2003 كانت المكونات والقوائم والكيانات تنظر إلى العلم ذو النجمات الثلاث وجملة (الله أكبر) نظرة احتقار وكراهية مرة بحجة تمثيله للنظام البعثي وأخرى بحجة الدماء التي سفكت تحته، فمنع رفعه في القسم الشمالي من العراق، ثم تعرض إلى التبديل والحذف ولا زالت هناك رغبة جامحة لتغييره. والغريب في الأمر أن العلم الذي فاز بمسابقة تصميم علم جديد للعراق من بين أكثر من 600 أنموذج هو ذات العلم ذو النجمة الثمانية الذي صممه المرحوم الفنان جواد سليم للجمهورية العراقية الأولى عام 1958 والذي استبدل بعد انقلاب شباط الدموي عام 1963 ليأتي فوز هذا العلم متساوقا مع توجهات الشباب في العالم العربي الداعين إلى عودة القديم.
وفي اليمن والبحرين والمغرب والكويت والسعودية وكل البلدان العربية التي يتململ فيها الشباب وتغلي دماؤهم لا ادري ما نوع العلم الذي سيرفعونه غدا، وهل سيعودون إلى الأعلام القديمة التي أهانها الإنقلابيون والتوريثيون، أم أنهم سوف يستنبطون أعلاما جديدة من واقع حالهم المزري الصعب.
المخيب للآمال أننا وفي كل حالات التبديل القديمة والجديدة والمنتظرة لم نرى مراسيم احترام حقيقية تمارس عند استبدال الأعلام العربية حسب العرف السائد بما يتناسب مع قدسيتها ورمزيتها ومكانتها، بل كل الذي رأيناه عبر التاريخ الطويل أن الوافدين الجدد يهينون الراية القديمة ويخذلونها ويحتقرونها ويدوسونها بأقدامهم ثم يحرقونها غير ملتفتين لمشاعرنا ليرفعوا بدلا عنها الراية التي يريدون، أما الشعب العربي من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب فلم يكن له صوتا مسموعا ولا رأيا مطاعا ولا حتى مجرد الموافقة أو عدم الموافقة على هذا التبديل الذي يستهين بدماء الشهداء التي سفحوها جزافا تحت تلك الأعلام دفاعا عن أوطانهم ومعتقداتهم وقيمهم وهم يرددون بفخر وإباء:
عش هكذا في علو أيها العلم فإننا بك بعد الله نعتصم
السؤال هو: هل يعني هذا السلوك الغريب وجود رغبة عند الشباب العربي بالعودة إلى الجذور، أم يعني الرغبة بعدم الاعتراف بشرعية النظم والمسيرات الطويلة التي قادت شعوبنا منذ تبديل الراية إلى تاريخ عودتها رفرافة على أيديهم؟ وهل يعني هذا أن شعوبنا فقدت من أعمارها في زمن الثورات التحررية عقودا عديدة دونما جدوى؟ هل يعني هذا أن كل الثورات والانقلابات التي حدثت في الوطن العربي في العصر الحديث كانت ضد إرادة الشعوب التي أسرعت لرفع العلم القديم حتى قبل سقوط هذه الأنظمة لتعلن عدم اعترافها بها؟ هل يعني هذا أننا شعوبا ترفض التجديد وتتمسك بالقديم؟ أم يعني أن الذي حدث وان الثورات العربية والنظم العربية مجرد خيبة أمل كبيرة تترجم خيبتنا من كل ما صار؟
ماذا تعني عودة راية السنوسيين الأولى في ليبيا بعد ستين عاما من التغييب وعودة راية عام 1963 إلى سماء سوريا بعد تسعة واربعين عاما من التغييب، وعودة راية جمهورية العراق الأولى بعد ثلاثة وخمسين عاما من التغييب؟
هل يعني هذا أن شعوبنا كانت مخدوعة، أم مغلوبة على أمرها، أم مسلوبة الحق طوال هذه العقود، أم أنها سئمت العنتريات والثوريات والضحك على الذقون والجماهيريات والوحدة والحرية والاشتراكية وكل الشعارات الثورية الأخرى وقررت النكوص والرجوع إلى نقطة الانطلاق الأولى للبدء من جديد بمسيرة جديدة لا تعرف كيف ستكون؟ أم أن دولار السلفية الخليجي الذي يتحكم بإرادة الشعوب العربية بالخفاء مرة وبالعلن أخرى يريد من وراء هذه العودة المثيرة للجدل تطبيع وتدريب الشعوب العربية على مبدأ العودة لا لكي يحقق أسطورة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم المسلوبة في فلسطين الحبيبة بل ليسهل عليه أخذهم جميعا والعودة بهم إلى زمن التحجر والجمود؟
بالله عليكم أجيبوني لأني عاجز عن إجابة نفسي، ولا تلوموني فلو كان الأمر بيدي لأبدلت جلدي حتى ولو بجلد ثعبان وحسبي من ذلك أني نجحت وخلقت ربيعي؟
0 comments:
إرسال تعليق